(يا ما حلى عيد الزهوريات)

الوحدة : 22-4-2020

نلملم من خيوط ذاكرتها بقايا صور لحياة مشبعة بالجمال والبهاء، ونتوق في حديثها لحكاية تجمع مفرداتها لتصبح مرايا للروح، قصائدها تتفتح أزهارها وحقولها على روابط إنسانية غاية في النبل والسمو، ذكريات تعطرنا بالفرح وضجيج الأمنيات، ليكبر الشوق في داخلنا ويتدفق النبض حاراً لأيام الأجداد، فرغم البساطة والشقاء في سبل عيشهم لنيل رغدهم إلا أنا نجدهم قد عاشوا الهناء والرخاء مطمئني النفس ومرتاحي البال، في حضن قراهم وسرير حقول خضراء بوسادة زهور وأقحوان، تضع رأسك بأحلام لتغفو قرير العين وملء الأجفان، لتنسل خيوط الفجر الأولى في نوافذ عينيك تنهض مسرعاً تسابق وهج الشمس وتمسك بجدائلها لترميك في ضجيج العيد وألوانه.

يجلس الماضي وتستريح مطمئناً في ذاكرتها التي تمدنا بأكسيد الحياة ودفء شمس نيسان بعد هذا الشتاء الطويل، فقد نقشت صورها وشماً في قلبها وذاكرتها وحملته طوال سنين بعيدة لتكون واليوم هي قريبة نلمسها ونعيش أوقاتها، امرأة مليئة بالوجود ترفض أن تكون بعيدة عن الحب والدلعونا تغني بأوجاعها ميجانا الفرح والمطر لتصير قصيدة يتردد صداها في غور الكهف المرابط لماء العين الغافية وسط جلبة الجبال الخضراء المزهوة بالبهاء والجمال.

أم محمد كانت تجلس على العين في قرية قسمين مع أحفادها الصغار حيث أتت بهم ليلهوا وتمضي بعض الوقت بجوارهم، ليسكنها الفرح الذي نراه نابعاً من مقلتها وكانت أن نوهت لنا بما يحظى به هذا المكان من نصيب في نفسها، حيث كنا بنات الضيعة جميعهن يتجمعن ويتسلين كل يوم، كان الفرح بأوجه عامراً في نفوسهن، لا شيء يشغل بالهن ويقلقهن، ورغم كل التعب الجسدي والشقاء في الزرع وجني المحصول إلا أنهم كانوا مبسوطين، فالجميع ينام قرير العين (بحط راسو ع المخدة وبنام) تتنهد وتفرج عنها لتقول: كانت أيام حلوة.

تتذكر يوم العيد الذي يأتي مرة واحدة عندهم فتقول: كنا نعد الأيام ليأتي يوم العيد (الزهورية) ونحسبها حيث نضع تحت الوسادة (كمشة) من البحص على عدد الأيام الباقية وفي كل صباح ويوم جديد نرمي منها واحدة إلى قبل يوم العيد الذي نتهياً فيه للغد الجميل يكون العمل بأضعاف، نزج الأعشاب والحشائش للأبقار والأغنام وغيره، ونحضر ثياب العيد الجديدة وأذكر (لميا، أم محمد) الخياطة وأكاد أتلمس صوتها وأسمع صوتها والله لن تذهب واحدة منكن يا بنات بغير فستان جديد وتسهر إلى ساعات الصباح وهي تخيط لنا الثياب، وكان من الممكن أن نلبس الفستان القصير أو الطويل لكن دون بنطال فهو للرجل ومن المعيب أن ترتديه البنات مثل هذه الأيام.

نأخذ (خرجيتنا) والتي تبلغ الليرة أو بضع ليرات نقسمها لنتفرج على صندوق الدنيا (تعا تفرج يا سلام ع صندوق الدنيا والأحلام  وبنت السلطان) فيركض الأولاد ويتدافشون عليه، كما نشتري ما يحلو لنا من (سحابات السكاكر، والمعلل الهري والأبيض، وبيض اللوز..) وغيره الكثير ولم نعرف الفلافل غير فيه، وهو الذي يعج بالأسواق كل ما ترغبين تجدينه فيه حيث كان مركزاً للتسوق وبازاراً، تذهب العائلة بكل أفرادها أبناء وآباء وقد تأهبت منذ ساعات الصباح الأولى وكان الفرح قد (طير النوم من عيوننا) بكامل أناقتها وبهائها، اليوم لا عمل فيه يوم عيدنا والجميع بلباس جديد إلى مكان يجتمع فيه أهالي القرية وقرى قريبة مثل البهلولية وبعدها بتنا نجتمع في القلوف وكانت زهورية أيضاً في مشقيتا وكرسانا وصنوبر جبلة وهو كان الأضخم والأكبر والشباب كانوا يتنقلون من مكان لآخر للاستكشاف وليخبروا الجميع بالمكان الذي تتواجد فيه أجمل الفتيات، وهنا الزهورية هي فرصة كبيرة للقاء العشاق وانتقاء الأب عروساً لابنه الشاب، تذبح الذبائح وتفوح رائحة الشواء في المكان حيث ترتفع عصا الطبل وتحط لتتهافت الصبايا الحسان والشباب لساحة الدبكة (نسهر لطلوع الضو) كنا ننتظر هذا العيد بفارغ الصبر.

 ودائماً ما كانت تهطل مطرة الزهورية وهي معروفة في الرابع من نيسان شرقي يعني 17 نيسان غربي وفيه منتصف نيسان ب28 غربي يعني مرتين تأتي  الزهورية وهذه السنة يقولون أنها تشبه أيام زمان مطر غزير وخير كبير، وبعد يوم الزهورية يبدأ النشاط والعمل وكأنها سنة جديدة حيث بدأ الناس اليوم بفلاحة الأرض وتمهيدها لاستقبال البذور والزرع.

هدى سلوم

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار