زراعة التبغ لم تنجُ من غلاء الأسعار … ألف باء زراعة التبغ ورحلة العمل المضنية لمزارعيه في ريفي القرداحة وبانياس
الوحدة: 18-4-2020
تعتبر زراعة التبغ زراعة استراتيجية في الريف يعيش على مردودها الكثير من الأسر الريفية التي لا تملك أي دخل أو مردود آخر سواها رغم أنها من أكثر الزراعات التي تتطلب جهداً ووقتاً كبيرين واهتماماً متواصلاً ورعاية وتعاوناً من قبل جميع أفراد الأسرة وفي كافة مراحل العمل بهذه الزراعة، وبما أننا الآن في موسم زراعة التبغ واكبت جريدة الوحدة عمل بعض المزارعين في ريفي القرداحة وبانياس واستمعت لأحاديثهم وشجونهم حول هذه الزراعة التي كانت ملاذاً ومورد رزق لمن لا عمل له ولا مورد سواه.
من قرية المتن التقينا بالمزارعين رياض عجيب وذكي جديد اللذين سردا لنا مراحل العمل والتعب في زراعتهما من الألف إلى الياء مع كل ما تتضمنه من شقاء وشجون: يبدأ التفكير بمساكب التبغ من كانون أول حيث تتم تسوية قسم من الأرض بشكل جيد وتعزّل من الحجارة والأعشاب وتغطى هذه المواقع بشرائح النايلون كي لا تتضرر الأرض بالأمطار وتزرع بكانون الثاني والمزارع ما بين طقس ماطر وطقس حار يقوم بتغطية المساكب أو تكشيفها وكثيراً ما يستيقظ ليلاً على صوت الهواء القوي (الشرقية) ليطمئن بأن الهواء لم يؤذِ غطاء المساكب أو يمزقه، وبعد زراعة المساكب ببذار التبغ (الدخان) المطلوب تكشف في الصباح قبل بزوغ الشمس وتغطى قبل غيابها وترش بالماء والدواء بشكل دوري حيث تتعرض المساكب لأمراض عديدة منها الذوبان والحوارة ولا تكاد تنتهي رحلة المساكب الطويلة حتى تبدأ رحلة تسوية الأرض التي ستتم فيها زراعة التبغ، فالأرض بحاجة للفلاحة أكثر من مرة بالإضافة إلى تسوية زواياها وأطرافها بسبب عدم قدرة آلات الحراثة على فلاحتها، علماً أن المزارع يدفع تكاليف حراثة الأرض للدونم الواحد أكثر من ٤٠٠٠ ليرة سورية للمرة الواحدة حيث تحتاج الأرض إلى أكثر من حراثة وآخرها تلك التي تسبق مرحلة (شتل الدخان ) وتسمى الترماية ولا تكون عميقة، ويتم خلال هذه الحراثة تسميد الأرض وبالسماد اللازم والضروري والذي أضنى كاهل الفلاح بأسعاره المرتفعة وغير المدروسة، لتبدأ بعدها زراعة التبغ في منطقتنا الجبلية في أوائل نيسان (شتلة شتلة) وتسقى (شتلة شتلة) وكثيراً ما تتعرض للعوامل الجوية فالمطر الغزير وحبات البرد والهواء تؤذي الشتول وبعد فترة قصيرة تحتاج الشتول إلى (ركشة) أولى ومن ثم (ركشة) ثانية لتحرير جذور النبتة وقلع الأعشاب التي تنمو بين الشتول وتؤذيها، ويعايش الفلاح مع كامل أسرته هذه النبتة منذ كانت بذرة حتى أصبحت شتلة ناضجة بكل التفاصيل كما ترافق الأم الوليد من قبل الولادة حتى مراحل متأخرة من حياته، وطبعاً تحتاج هذه النبتة إلى أدوية باهظة الثمن لمعالجة الأمراض التي تصيبها وإن سلم الموسم من الظروف الجوية والأمراض يقوم الفلاح بمرحلة (التفريع) للنبات ووضع ورش دواء من أجل إيقاف عملية الفرع ومن ثم يبدأ قطافه (ورقة ورقة) وتشك بمسلات وخيطان خاصة به ومن ثم يعلق خيط التبغ في الأشجار القريبة، وبعدها يسطح على الأرض ليكتسب لونه الأحمر الجميل ومن ثم تعليقه من جديد وبعدها مرحلة شبحه (أي وضع كل الخيطان فوق بعضها في إحدى زوايا المنزل) وهنا يتوجب على المزارع أن يقوم بمتابعة محصوله وفق شروط حفظ مناخية مناسبة كي لا تتعرض للرطوبة والعفونة والتقطين ويخسر تعبه طوال العام، وقبل نقل التبغ إلى مراكز البيع يقوم بكبس الدخان وفق آلية جمع معينة بما يسمى (بالة الدخان) وبعد تكلف عناء نقله ضمن ظروف مناسبة يتم بيع الكيلو الممتاز ب ١٥٠٠ ليرة وفي هذه الحالة لا يحصل المزارع على واحد بالألف من تعبه لأن كل أفراد العائلة تعمل بهذه الزراعة على مدار عام كامل، وفي غالب الأحيان يكون إنتاج الدونم الواحد ما بين ٢٥٠ و٣٠٠ كيلو إذا لم يتعرض المحصول لأي ضرر، وبعملية حسابية بسيطة لعمل عائلة مؤلفة من خمسة أفراد في زراعة التبغ ٣٠٠ كيلو ليباع الكيلو ب ١٥٠٠ ليرة يكون المبلغ ٤٥٠٠٠٠ ليرة ولو قسمناها على ٣٦٥ يوماً على خمسة أفراد بعد حساب كل التكاليف نترك لكم نتيجة الحساب ونسأل المعنيين هل أنصفتم المزارع وأعطيتموه لقاء أتعابه وجهده لعام كامل (هذا إن بيع الموسم كله ب ١٥٠٠ ليرة)؟ ومع ذلك نرجو من الله أن يحفظ سورية وأن تنتهي هذه الأزمة على خير والأمل كبير بسيد الوطن صاحب القلب الكبير أن ينصف هذا المزارع.
السيدة هدى جديد من قرية اسطمنا قالت: يعاني مزارع التبغ الأمرين في رحلة عمله الطويلة فكل شيء غال من الحراثة إلى أسعار الأدوية الكاوية إلى الأسمدة التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني ورغم ذلك غير متوفرة مقارنة بالأسعار المتدنية التي تعطيها الريجة في نهاية الموسم للمزارع وأضافت: رغم كل هذا التعب المضني العديد من أهالي القرية لم يستطيعوا بيع الكيلو الواحد للمؤسسة العامة الماضي بأكثر من ٣٥٠ ليرة هذا ما دفع بالبعض لعدم بيع كامل المحصول للمؤسسة كونها تأخذه بأدنى الأسعار بينما لو بيع الكيلو الواحد (مكتوت) يصل سعره إلى أكثر من ٥٠٠٠ ليرة والطلب عليه كبير، نحن لا نبرر للفلاح ولأنفسنا هذا الشيء ولكن مقارنة بالأسعار الجديدة التي يضطر الفلاح لدفعها من حراثة وأدوية وأسمدة فهو مضطر أن يقوم بهذا العمل ومضطر أن يؤمن كافة التكاليف بنفسه دون ان ينتظر الدعم الذي يوعد به بينما على أرض الواقع كل شيء يدعوه لهجرة أرضه وترك زراعته التي توارثها عن آبائه وأجداده.
السيدة أم أحمد من قرية بحورايا قالت: المثل يقول (بدك تدفع التسعة لتأكل العشرة) ولكن الفلاح في هذه الأيام يدفع أكثر، وقالت: زراعة الدخان صعبة ومريرة وتحتاج للصبر والعمل المتواصل والمضني طول العام حتى صار الفلاح يشعر أنه عبد عند مؤسسة التبغ ولا يأخذ إلا جزءاً بسيطاً جداً من أتعابه بعد غلاء شرائح النايلون والأدوية والأسمدة والفلاحة وكل ما يخص هذه الزراعة بقيت أسعار الريجة على ماهي عليه في السابق بينما يحصد النتائج التاجر الذي يقبض أعلى الأسعار بعد تخمين دخانه بأعلى الأسعار بينما الفلاح الفقير يخمن رزقه بأسوأ الأسعار وأضافت: كيلو الدواء الواحد بـ ١٥ ألف ليرة، وربعية الذوبان بـ ٨٠٠٠ ليرة لا تكفي رشتين ودواء المن ب ٨٠٠٠ ليرة وتغيير النايلون للسكوبة الواحدة بطول عشرة أمتار بين مرتين وثلاث مرات خلال عمل المساكب يتجاوز ال ٦٠٠٠ ليرة وقالت: ما يدفعنا للاستمرار بهذه الزراعة إننا نعتبر هذا العمل مثل الجمعية التي نقبضها في آخر دور لها لنوفي بها جزءاً من ديوننا المتراكمة علينا، بينما كان في السابق عملاً يستحق الجهد والمتابعة وقد ربينا أبنائنا وعلمناهم اعتماداً على مواسم التبغ.
وقال بعض الفلاحين الذين التقيناهم و رفضوا ذكر أسمائهم لأنهم متأكدون أنهم لن ينصفوا ولن يؤخذ بكلامهم ولن يستطيعوا أن يغيروا من الواقع شيئاً، إن الحل الوحيد لإنصاف مزارع التبغ وجود لجنة فلاحية من القرى التي تزرع دخاناً بحيث يوجد من كل قرية فلاح يعمل في أرضه ويعرف بالدخان ويعرف قيمة الجهد الذي يبذله الفلاح طوال العام وقيمة المواد الذي يتكلف بها إلى جانب الخبير من مؤسسة التبغ والذي يقوم بتخمين السعر للمزارعين والذي ربما لا يعرف شيئاً عن هذه الزراعة وعندها ربما يضبط الوضع ويأخذ المزارع جزءاً من حقه.
وقال آخر: لو يعطونا حقنا كما سعرته الدولة دون غش وتلاعب ورشاوي ما كان هناك أجمل من زراعة الدخان وأضاف: أصغر باكيت وطني ثمنه ٢٥٠ ليرة ولكم أن تسألوا الكيلو كم يعمل (باكيت) إذا كان وزن الباكيت مغلفة وجاهزة بضعة غرامات.
وقالت إحدى المزارعات: نحن بكل صدق نبيع كل ما ننتجه للمؤسسة ولكننا نتعرض للظلم ونعامل كمن اختار النوع الرديء فقط وباعه للمؤسسة بينما باع النوع الجيد للتاجر الذي يدفع للفلاح أفضل بكثير من المؤسسة وهكذا يذهب الصالح بالطالح وتساءلت كيف يعطون للتاجر ٢٠٠٠ ليرة بالكيلو ويعطون للفلاح الفقير ما بين ٣٠٠ و٤٠٠ ليرة بنفس الجودة والنوعية، وأضاف فلاح آخر: إن بعض المزارعين يلجؤون إلى بيع جزء من محصولهم لبعض التجار كي يعوضوا جزءاً من خسارتهم ولو عاملتهم المؤسسة مثل التاجر وأعطتهم حقهم لالتزموا بها وابتعدوا عن التاجر.
وفي بانياس، يبحثون بين طيات الحياة على مصدر رزق يذللون به مصاعب العيش لتقف بوجههم صعوبات أخرى تجعلهم يتخبطون بكل قواهم ليتجاوزوها، مزارعو التبغ ومع بداية موسم الزراعة يتحدثون للوحدة عن المصاعب التي يتعرضون لها:
تقول أم أحمد: باتت زراعة الدخان عمل المرأة الأرملة التي لا معيل لها إلا الله لتقف في وجه الفقر وتكمل حياتها مع أطفالها ولكن مع غلاء أسعار الأدوية والأسمدة بالإضافة لغلاء أجرة اليد العاملة لم تعد هذه الزراعة (بتجيب همها) فقد أصبحت أجار اليد العاملة ١٠٠٠ ليرة على الساعة الواحدة بالإضافة للطعام والدخان.
ويقول السيد قصي إن الطقس كان له أثر سلبي بزراعة الدخان فكثرة الأمطار لم تمكننا من فلاحة الأراضي فتأخرنا بشتل الدخان وقد تزامن هذا مع نمو الشتل بشكل كبير في المشاتل مما سيشكل صعوبة عند زراعته بسبب طوله الزائد، أيضاً هناك مشكلة الماء ففي بعض الأحيان يحتاج الدخان للري وقلة الماء ستمنعنا من هذا، وعلى الرغم من كل ذلك سنزرع لأنه مصدر دخل لا يمكننا الاستغناء عنه.
أيضاً يقول السيد غدير: بعد أن وصل الشتل لمرحلة جيدة قمت بشراء دواء لمعالجة الجذر و لكن ما قام به هذا الدواء هو (هريان) الجذر بدل معالجته وبالتالي خسرت المشاتل التي من المفروض أن تكون جاهزة الآن لأباشر بالزراعة وحالياً أبحث عن مصدر أشتري منه الشتل فغلاء أسعار الأدوية لا علاقة له بجودتها.
أخيراً تقول أم سامر: الراتب التقاعدي وحده غير كافي وأنا غير موظفة لذا كان لابد من البحث عن مصدر رزق ولكن للأسف غلاء المواد وأجور حراثة الأرض والأدوية وعدم فعاليتها في بعض الأحيان جعلها لقمة مغمسة بالتعب وغير كافية للتغلب على الغلاء الذي نعيشه، ومع هذا أقوم بزراعة التبغ علها تكون عوناً لنا، لأننا لو قمنا بعملية حسابية صغيرة وقارنا بين تكاليف الزراعة بدءاً من فلاحة الأرض إلى الأدوية ومن ثم شراء الخيوط والتعب الكبير نجد أنفسنا وكأننا كنا نقوم بجمعية لجمع هذه الأموال مع إضافة تكاد لا تذكر ففي العام الماضي كانت تكلفة زراعته حوالي 50 ألف ليرة وذلك لأن أرضي صغيرة وتم بيعه ب100 ألف تقريباً أي أنها بالكاد تنسينا تعبنا، وبالطبع أزمة السماد التي عانينا منها كان لها أثر على المشاتل ونموها، نتمنى هذا العام أن يكون تخمين الدخان عادلاً وليس كما كان في العام الماضي.
سناء ديب- رنا ياسين غانم