«رجــل بكليـــــة واحـــدة» للأديب سيف الدين راعي

العدد: 9298

الأحد-24-2-2019

 

 

الرواية صورة عن الحياة والإنسان، وفن حكاية التفاصيل وتسجيل الواقع بأبيضه وأسوده، ورسم ملامح الحالة الإنسانية التي تشغل بال الراوي، وهي إحدى مرايا المجتمع تعبر عنه وتتفاعل معه ومع منغصاته، ويودعها الكاتب قلقه وكوابيسه وهذيانه، وهي مصدر تاريخي هام لا يستطيع المؤرخ أن يقدمها بسبب الميل والهوى.
التهجير والهجرة سلاحان استعماريان قديمان أشد فتكاً من البندقية والمدفع، وهما إحدى الويلات التي انهمرت على الشعب السوري لإفراغ الدولة من سكانها وشبابها وخبراتها وتحويلها إلى ساحات للتطرف والإرهاب والفوضى، يريدون من سورية أن تتآكل من الداخل ويغادرها أبناؤها إلى الخارج، وقد تحولت الهجرة إلى هيستيريا مجنونة ضربت بعض شرائح المجتمع السوري وخاصة في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون، يهربون بأرواحهم خارج الحدود ليقعوا في براثن المصير المجهول الذي ينتظرهم.
(رجل بكلية واحدة) آخر إصدارات الكاتب والروائي والشاعر سيف الدين راعي – إصدار دار المرساة 2019 تتحدث عن الحب في ظل الحرب والأيام المظلمة التي أسدلت ستارتها المثقلة بكل أوزار الكون التي جثمت على صدور السوريين وبدلت روزنامة الحياة لتسير في زواريب ضيقة لم تكن في الحسبان، وصار الكثيرون كالأرواح الضائعة الهائمة على وجه الحياة في محاولة التقاط لقمة العيش من فم القدر، وصراع البقاء.
الهجرة عبور نحو الغياب وهجران إلى موانئ بلا أرصفة والسقوط في جغرافيا الضياع وانفصال المرء عن مسقط رأسه ومكانه الأول وانقطاعه عن بيئته وطفولته وعناصر تكوينه، وانسداد الأفق بالضباب الكثيف، حتى أن بعضهم يشتهي الموت – الأرحم من حياة لا حياة فيها. . . أربعة من الشباب قرروا الهجرة إلى أوروبا أرض الأحلام الموعودة (إبراهيم المنصور، عامر العبدالله، مصطفى هرموش، خالد الشريقي) قادهم هاجس المغامرة نحو الضياع وانقلبت أحلامهم وبالاً عليهم، وسافروا بصورة غير شرعية إلى بيروت ومن هناك طاروا إلى اسطنبول لتبدأ معاناتهم ورحلة آلامهم من جديد خاصة وأن المهاجرين السوريين لا يدركون ما ينتظرهم على أيدي الحكومة الإخوانية التركية المتواطئة مع العصابات الإرهابية وعصابات المافيا المختصة بتجارة الأعضاء البشرية والتجارب الطبية على البشر الأحياء، والأحلام التي ملأت رؤوسهم بدأت تنهار دفعة واحدة وتنتهي في الحفر، حيث يبدأ السماسرة من حين وصول المهاجرين إلى مطار اسطنبول عملهم: (اتفقت مع مهرّب للبشر الراغبين في الخلاص من الجحيم الذي هبط علينا أن يوصلني إلى بيروت وهناك يتلقفني مهرّب آخر يتكفل بسفري إلى اسطنبول، ومن هناك سأجد وسيلة توصلني إلى ألمانيا، وكل خطوة بثمن والثمن دولارات). ص10
الهجرة القسرية للشباب الأربعة الذين عدّوا أوروبا أرض الأحلام ليقعوا في شر أحلامهم وتصوراتهم، فبعد الإرهاب ووحشيته يأتي عراكهم مع أمواج البحر وبازارات سماسرة الهجرة، ومن يُكتب له الوصول تعاملهم الدول الأوربية كحشرات غازيّة، حيث ساقوهم كالبهائم من مطار اسطنبول إلى أحد المعسكرات الإرهابية، وحينها تعاهد الرفاق على أن الوطن أكبر من الخلافات والاختلافات وأن لا يحاربوا الجيش الوطني وأن يسلموا أنفسهم إلى أقرب حاجز للجيش السوري.
الحب والزواج أكثر ما في الحياة عذوبة وعذاباً، كثيرة هي القصص الإنسانية التي أفرزتها هذه الحرب المجنونة، وفي الغربة يحضر الاشتياق ورائحة المكان وحنين الأشياء والاهتياج الروحي، وإحساس يسيطر على نفس المهاجر الذي يتعلق بالقمر المعلق بالضباب ويحولها إلى وجود مأزوم . . . إبراهيم المنصور يسكن مع أمه وشقيقته في المدينة الرياضية بعد تهجيرهم من قبل العصابات الإرهابية، التقى بزميله عامر العبد الله واتفقوا على الهجرة إلى تركيا ومنها إلى أوربا، وفي اسطنبول صار يتنازعه الهوى ويعيش صراعاً بين فتاتين – فاطمة في الوطن التي أحبته بكليتين، وسمية التركية (ابنة الآغا) الذي استقبلته وآوته ورعته وحمته التي تعرف أنه بكلية واحدة: (ثم رُحت أقارن بينهما، فقلت: سمية تعرف إني بكلية واحدة وأحبتني، وفاطمة أحبتني بكليتين، وعندما عرفت فَترَ حُبها) ص77، وحنان الآغا واستماتته وتوسطه وإرساله إلى الهند لزرع كلية له، ولكن الأقدار شاءت أن لا يتم تواقف الأنسجة ويعود من الهند بدون الكلية الموعودة . . ( سأتدلى على أرجوحة من ضياء وسأفتح وجهي للريح تداعبه في غدوّها والرواح . . هي حيدر أباد والدكتور راجيف يبدأ أن الولادة الجديدة)، وبعد عودته أعلن خطوبته من ابنة الآغا.. (هو الحب فيا أرض ميدي، و يا سماء اشهدي، أنا أحب سمية وفور رجوعي من ألمانيا سأتقدم بطلب يدها من أبيها، وأظنه لن يخذلني، فإن ولده من صلب محمود المنصور) ص99، ثم تزوجها وسافر برفقتها إلى ألمانيا مديراً لفرع شركات الأغا في ألمانيا وبعد عامين عاد برفقة زوجته وولده إلى اسطنبول ومنها سافر إلى سورية ليزور وطنه ومدينته وقريته.
(رجل بكلية واحدة) رواية مليئة بالمواقف الإنسانية المؤثرة والوطنية الصادقة، فالوطن هو نسج الحياة ويخضور البقاء: (إذا قُدّرَ لك أن تزوري بلدي سورية فسترين أنَّا نَبذُّ حتى الفرنسيين في حرياتهم، وما من دولة أوربية يتمتع أبناؤها بالحرية التي ننعم بها نحن) ص72، ورفاقه الثلاثة سلموا أنفسهم للجيش الوطني البطل في ريف حماة كما تعاهدوا في اسطنبول.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار