صنعنــــا «الغــــول» ونســـينا كيـــف نروّضــــه!

العدد: 9543

الأربعاء: 4 آذار 2020

تماماً، مثل كرة الثلج، كلما تدحرجت أكثر (أو دحرجناها)، كلما كبرت أكثر، وليس شرطاً أن كلّ ما يكبر فإنه يتطور إيجابياً أو يكبر لصالحنا، فالهمّ يكبر حتى يكاد أن يقتل حامله، والمرض يستفحل ليستعصي على مداويه، والشوكة تكبر فتصبح كأفعى وهكذا…
نخاف أحياناً أن ننظر إلى المرآة، فنرى ذلك (الغول) الذي ربّيناه في دواخلنا، ولم يعد بإمكاننا ترويضه أو السيطرة عليه لأننا بالأساس أردناه وحشاً، وقبلنا أن يلتهمنا!
اجتمعنا مع أنفسنا، وقررنا أن نكون مريضين، بل ورفضنا الاستجابة لكل الاستطبابات، وربما نخشى أن نُشفى من أوهامنا لأننا تعايشنا معها، وقد يكون من الصعب جداً العيش خارجها..
تُرى، لو فرجت كلّ همومنا المعيشية فجأة، إلى أين سيتجه (نقّنا) الذي أصبح وجبة يومية؟
بكلّ بساطة، وقبل محاولة الإحاطة، صحونا حين دخلت الشمس كهف غربتنا عن واقعنا، لنكتشف أننا لا نعرف ذواتنا، وأنّ ما نبحث عن إعادته واسترجاعه هو ما رفضناه وشتمناه قبل نومنا (أو موتنا)!
في عشرين سنة أخيرة من القرن العشرين، وعشرين سنة أولى من القرن الحادي والعشرين، كبرنا على تناقضات متسارعة جداً، وتغيّرت قواعد كلّ لعبة، واختلفت النتائج كلّياً، وأعادت الأشياء (أو الأولويات) تموضعها خبط عشواء، وكأن زلزالاً مدمّراً أصاب تفكيرنا!
لن نتورّط في السياسات الاقتصادية، ولن نقحم أنفسنا في استنتاجات، وسنتحدث بلسان مواطن عادي نحتكّ معه يومياً، ونسترجع معه ما عاشه في ثمانينيات القرن الماضي، وكيف خرج بـ (إيجابية كبيرة) من اختناق حقيقي إلى مواطن مبدع في التغلّب على الحصار وعلى (الشحّ).
أطبق الحصار علينا من كلّ حدب وصوب في تلك الحقبة، ولم نكن نملك (أفراداً ومؤسسات) ربع ما نملكه الآن، ومع هذا لم يتغيّر سعر سلعة (إلا ما ندر)، ولم نشكُ غياب حاجة أساسية، (وبعضنا ما زالت لديه البطاقات التموينية)، لأن تطبيق القرارات التي اتُخذت حينها كان سليماً، أما الآن فالقرارات التي تُتخذ أفضل بكثير من قرارات تلك المرحلة لكن العلّة في تنفيذها، ولذلك أحدثت أثراً قبل نحو أربعة عقود، ولم تحدث إلا القليل من الآثار الإيجابية هذه الأيام…
أنتجنا الأسمدة، وجمّعنا الجرارات (الفرات)، ولم تترك الجمعيات الفلاحية حبّة بندورة واحدة تُتلف، بل كانت تستلمها من (الأرض)، وتقدّم العبوات الفارغة مجاناً، وكان لكلّ جمعية جرارها (التعاوني) الذي يخدّم الفلاحين بالحدّ الأدنى من الأجور، وفتحت المصارف الزراعية خزائنها لقروض ميسّرة وطويلة الأمد، والسماد على (قفا مين يشيل)، فكانت النتيجة استقراراً في اتجاهين، استقرار الفلاح في أرضه مع سعة في أسباب العيش، واستقرار المستهلك الذي لم يكن ينظر للمنتج وكأنّه عدوه بل كان يدعو له (الله يبارك لكم بالرزق).
الوضع مختلف الآن، ونادراً ما تجد مزارعاً (لا ينقّ).. كلّ شيء ضدّ الفلاح، مقولة لم تحضر من فراغ، وبالتالي يجب أن نتعامل معها بجدّية أكبر، فالزراعة وحدها هي القادرة على إعادة التوازن لحياتنا، وهي الرافعة الأقوى لنهضتنا (الإعمارية) القادمة، وإعمار الحجر يأتي في المرتبة الأخيرة.
لنوفّر لزراعتنا أسباب الربح والأمان وكلّنا مستفيدون، ولننظر إلى الإنتاج الزراعي كركيزة أساسية تسند كلّ تطلعاتنا المستقبلية، فحتى (أستاذ المدرسة) الذي يجد في (الدروس الخصوصية) مخرجاً له سيكون فرحاً بربح المزارع لأن الأخير سيكون قادراً على دفع (أجور) الدروس الخصوصية، فتنتعش هذه المهنة الحاضرة (من خلف عين القانون)، وسيتوّج هذا المزارع موسمه الرابح بتجهيز بيت لأحد أبنائه كما هي عادة الفلاحين، وهنا سيستفيد تاجر مواد البناء وعامل البناء وأصحاب مهن الحدادة والنجارة والموبيليا والصاغة والكوافير… إلخ.
بتنا نخاف من الأرض مثل (غول) ومن زراعتها، فقصدنا شوارع المدينة نتسوّل (وظيفة) أو عملاً على بسطة، تاركين خلفنا أرضاً معطاءة لم نحسن التعامل معها، ولم نجد ما يقوّي تمسّكنا بها، وصار الجراد يزورها أكثر منّا، فتراجع دورها في حياتنا (والأرض تحبّ من يحبّها كما يقول لي أبي)، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي حتى قبل الحرب التي فُرضت علينا، ونتجه نحو إعلان النصر النهائي بها قريباً بإذن الله وبفضل تضحيات جيشنا البطل.
يجب أن تكون هناك مراجعة حقيقية، فبالنهاية نفكّر بمستقبل ناس ووطن، وقد اتفقنا أن الزراعة تأتي في المقام الأول بين دعائم هذا المستقبل.
الوحش الذي أشرنا إليه في بداية هذا المقال هو خوفنا من أنفسنا أيضاً، وعدم قدرتنا على توظيف إمكانياتنا بما يخدمنا، واتجاهنا إلى حلول (طفيلية)، فهجر الفلاح أرضه كما أسلفنا ليعمل ببيع وشراء العقارات، أو اشترى سيارة ليعمل سائق طلبات عليها، أو دفع كلّ ما أنتجه من الأرض (وربما ثمن بيع الأرض نفسها) ليشيد (بناية) قطعته في منتصف الطريق فلا استطاع إكمالها ولم يتوفق ببيع أي شقة منها، فخسر كلّ شيء، وبات عاجزاً عن فعل أي شيء.
(الغول) هو ألا نعرف ماذا نريد، وألا نقتنع بما يمكننا فعله، وأن نطيل النظر إلى ما لدى الآخرين!

 غــانــم مــحــمــد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار