طفولة بوجه رغيف.. عيش أبيض أم أسود ..

العدد : 9542

الثلاثاء 3 آذار 2020

 

كم في يومنا هذا من البؤس والشقاء والمضنيات التي يصير لها (الولدان شيباُ) ويصبحون رجالاً صغاراً بلا شوارب أو لحى وقد استعاروها من الحياة مع بدلة وجلباب الأب وسرواله وخرجوا في مناكبها وشوارعها بوجوه ضاعت فيها طفولتهم التي دقت أعناقها سبل عيشهم وزادت معارك الأيام بخناقها وظلمها، فأي مستقبل ينتظرهم؟
عامر له من العمر 16 سنة لم يفلح في مدرسته ولا يرضى أن يجلس في البيت مرتاحاً، وهو يرى والده محبوساً في غرفته مقيّداً بسرير مرضه، ووالدته تعمل في محل ألبسة تذهب في الصباح ولا تعود لأختيه الصغيرتين إلا في المساء، هو وحيدها الذي بات رجلاً اليوم، ولا تسمح له (رجولته) كما يقول أن يتسكع في الشوارع مع رفاقه، فهو يعمل في محلّ كوافير بعد أن تعلم على يد صاحبه الصنعة حتى أنه في أيام العطلة يمكنه أن يستثمر الوقت ويعمل في البيت ويكسب مالاً إضافياً على راتبه إذا ما قصدته إحداهن لصبغ شعرها أو قصه أو غيره، فقد بات يتقن عمله وأمه راضية عنه بعد أن دمعت عيناها وهي تلوم نفسها لانفكاكه عن مدرسته وتركه لها بينما ترى رفاقه يدرسون ويجتهدون لينالوا الشهادات والمراتب، ولطالما رطب قلبها بقوله ( أنا مبسوط بشغلي ومردوده جيد بل ممتاز، وحتى لو درست ونجحت بالبكالوريا وسجلت بالجامعة وتخرجت لن أعمل بوظيفة أفضل منها ولا فيها راتباً مثل ما أجنيه كل شهر) سيكون لي محل عما قريب واسم وشهرة لمهارتي، هذا ما يقوله لي معلمي.

غيث، وجهه مشوه ويده اليسرى أيضاً، ترك مدرسته بعد المرحلة الأولى وهو اليوم بعمر الخامسة عشر، جميع سائقي السرافيس يعرفونه ويحبونه ولا يأخذون منه الأجرة حتى أنهم يحجزون له مكاناً عندما يكون ازدحاماً، كنت استغرب الأمر ولما جلس بجانبي مرة سألته ماذا يعمل فقال: معلّم كهرباء سيارات، فضحكت وقلت أنت معلم كهرباء، فردّ: نعم ويمكنك أن تسألي عني من شئت ومعه سيارة، وأين تعلمت؟ في حلب، أنا منها، وكان لدينا محل يشغله والدي، لكنه هجرنا وصرنا وحيدين أنا وأمي، فجاءت بي بعد أن دمر المحل لنسكن على أطراف اللاذقية في الجهة الشمالية، حاولت والدتي أن تعمل ورفضت الأمر، فأنا الرجل في البيت وأريدها أن تعيش بأمان وكرامة ودون سؤال الآخرين، والحمد لله صنعتي أكسب منها الكثير لنعيش براحة واطمئنان، وماذا عن وجهك ويدك؟ يرد بغصة تحصر كلماته داخل جوفه: إنه الحريق الذي التهم بيتنا عندما كنت أحاول إشعال الغاز وأمي في السوق، وقد أصابتني الحروق في كل جسدي وعدت للحياة من جديد والحمد لله.
رهام، في عمر 16سنة تعمل في عيادة طبيب تعيش مع والديها في بيت صغير في الرمل الشمالي، لوالدها راتبه التقاعدي الضعيف الذي لا يسمن من جوع ولا يأتي بكامل أدويته وهو عاجز ومشلول، فكيف لها أن تطلب المال منه والمصروف مثل كل البنات، فكان أن تركت مدرستها ولما لا وتعلم علم اليقين أن (الفتاة لبيت زوجها) وتكفيها شهادتها الإعدادية لتتمكن من أي عمل تبغيه، فهي تعمل في العيادة بأجر قليل لكن (البحصة بتسند جرة)، وعند الظهيرة تلحق بدورة (تنظيف بشرة وتاتو) وقريباً ستعمل بها وتجني منها الكثير، فلطالما البنات في جري وراء الجمال الذي لا يمكن أن يقل أو يفتر ويموت بيعه ولو في حي الفقراء.
فتى أسمر لوحت وجهه أشعة الشمس، أكسبته البرونزاج الذي يحلم به الشبان والفتيات، يطلبونه بارتيادهم شواطئ البحر، و حتى صالونات التزيين وعيادات التجميل، وهو يجلس على الرصيف يحمل بيده فرشاة وعلب من ألوان دهانات الأحذية أمامه على صندوق خشبي، الجميع ينادونه بأبي العز وأي عزّ هذا؟
رغم أنه لم يتجاوز العاشرة من عمره حملته الحياة هموماً وأوجاعاً كثيرة، فوالده تزوج بأخرى، و ترك أمه بين براثن المرض مع أولادها الثلاثة، أبو العز أكبرهم ترك مدرسته رغم اجتهاده و حبه للدراسة، ويتأمل الطلاب في دخولهم وخروجهم من أبواب المدرسة يحملون الحقائب والكتب والفرح، الفقير لا يحتاج إلى المراتب العليا في العلم، وهو يعمل منذ ثلاث سنوات أو أكثر، حيث وجد نفسه في الشارع يبيع العلكة و يلمع زجاج السيارات، ومرة أخرى يشطف درج الأبنية، و الآن يلمع الأحذية قال: أكسب لقمة عيشي وإخوتي من هذا الصندوق، وهو في أحيان كثيرة لا يسد الرمق و لكنه والحمد لله مردود عملي اليومي يقينا مذلة الحاجة والسؤال، فجميع شباب الحارة التي أعيش فيها يسرعون إلي لتلميع أحذيتهم، وأعلم أنهم في ذلك يحاولون مساعدتي لأني لم أرض يوماً منهم المساعدة دون أي تعب مني، أشكرهم وأشكر ربي لأني قادر على حماية عائلتي من الجوع وشر العوز، وأنظر للغد وأراه مشرقاً فإرادتي قوية، ويوماً ما سأغير عملي ليكون أفضل مردوداً وأكسب الاحترام، وأحلم بالعودة إلى الدراسة، والحصول على أعلى المراتب والدرجات، ولا أرى ذلك بعيداً.
هذه القصة تتشابه مع قصص كثيرة نسمع بها بل نراها كل يوم، وخصوصاً وسط هذه الأزمة، التي أرخت بظلالها السوداء على أفراد المجتمع والأطفال منهم، فتحت أشعة الشمس الحارقة أو البرد القارس، ومن أجل لقمة العيش أطفال يقفون على الإشارات يبيعون العلكة وأشياء يسهل حملها، يترامون أمام السيارات علهم يجدون من يدس يده في جيبه، ليرمي لهم ببعض الورقات، فيكون يوم الحظ والسعد، فقد أمّنوا بعض فتات يومهم هذا.
وآخرون يمكن أن يكونوا قد جاؤوا من قصص الخيال ويكادوا يتشابهون بأطفال (منظفو المداخن) وغيرهم ممن تتقاذفهم رياح الظلم والمعاناة وتطرحهم أرضاً لتدوسهم أقدام الناس في دروب النهار، ويرمونهم بسهام نظراتهم في سكرات الموت.
رأيت قدميها الصغيرتين تنفذان من بين أحشاء الحاوية القابعة في حي الزراعة وسط بنايات مغمضة العينين عنها وظننتها قد وقعت فيها، اقتربت منها فإذا بصبيّ ينقب بين الأكياس، نادته الصغيرة بعاصم وهو لا يتجاوز 13سنة بسحنته السمراء الملطخة بأوساخ الحياة وسواد مواجع الأيام، وقد أمسك بيده بعض لقيمات عيش وخرج من بطن الحاوية ليجر أخته مع عربة مثقلة بالبلاستيك والنايلون وبعض الثياب ولم يلتفت لنا ورفض الجواب، ناديته بأني لن أبوح لأحد بأمره ولن أصورهما، ولما استأنس لي بدأ برد الجواب على (قد) السؤال، فكان في حديثه : يأتي بعد خروجه من المدرسة إلى نبش الحاويات لكسب بعض الرزق بما تحويه من خردوات تجمعها الجدة وتبيعها لأجل كفاف عيشهم، وهذه الصغيرة أخته هند تلحقه ويصدها إلى أن ينتهي أمرهما في الحاوية، يسكنان في غرفة صغيرة مع جدتهما بلا معيل، الأم توفيت من التعب والشقاء بمرض منذ أربع سنوات والأب مفقود منذ أعوام، وجدته تعمل في بعض الأيام في شطف درج البناية المقابلة للحاوية لتأخذهما معها في طريق العودة، وفي أيام أخرى يقعدها المرض في البيت، فيكون الابن والأب والأخ بذات الوقت، الجيران يساعدونهم ولم يكن يرضى بذلك قبل اليوم لما اشتدّت الأيام بقسوتها وجارت عليهم، ويؤكد أنه ليس بكسول لا في الحياة ولا في الصف ويمكن الاعتماد عليه حتى أن ما يجنيه ويحصل عليه كل يوم يقيهم شر العوز فلا تحتاج جدته للعمل وسيجلب في العيد لعبة شقراء تحلم بحملها أخته الصغيرة، وحين يكبر سيصبح رجل البيت ويعمل بشغل نظيف.

هدى سلوم- معينة جرعة 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار