كالعصافير .. يلتقطـــون أرزاقهــــــم مــن أيّ مكــــان !

العدد 9538
الأربعاء 26 شباط 2020

 

 

تحتشد حياة أناس بكل تفاصيلها وأوجاعها على أرصفة عيش وحواف طرقاتها، ويفترشون فيها بساطاً على (قد) أرجلهم يستر الحال، ويحجبون وجوههم بوشاح مبتعدين ومنهزمين من أنظار المتطفلين والحشريين، وقد يمرون في طرقات حيّهم وقرب مسكنهم كالغرباء، وسط نهار مكفهر ومقفر وفقير الحال يتسللون إلى أجواف أشغالهم وينقبون في بطونها عن الفتات، ووقع أقدام المارة قربهم تلسع مسمعهم وتصيب منهم الفؤاد، إذ تنالهم الإهانات والإزعاجات ،فيكون في بؤس شديد، الكل يستقوي عليهم ولولاهم لما استقامت الحياة.

* أبو دانا (بويجي) جلس مع رفاقه في نسق واحد في ساحة الشيخضاهر قرب المقاهي التي امتدت طاولاتها على رصيف المشاة، وكان أن انطوى كل منهم على نفسه ولملم أطراف بصره على أقدام المارة دون وجوهها، وراح يردنا ويتمنع عن سؤالنا بقوله لا تصوير ولا كلام، وأبو دانا يقول بحديثه والتي طالته حشرجة قهر وخجل فتتدحرج كلماته أمامنا وتصب في آذاننا أنيناً وضجيجاً (لا أحد يموت من الجوع) هذه الأيام باردة وشمسها حارة على الجميع.
يطلق الآه وكأنها صفارة إنذار: لم يعد في هذا الزمان أصدقاء أو رفاق، ماسح الأحذية كغيره من الناس المعترين، الذين يقتاتون على فتات الآمال بلقمة عيش هانئة، بلا ولائم باذخة من الأحلام، لم أنل شهادة دراسية لكني أقرأ وأكتب وقد تخرجت من مدارس الحياة دون وظيفة، ولم يكن في دروبي غير هذه الصنعة البسيطة ولا تحتاج علماً، غير الشطارة في صبغ فردتي حذاء، آتي من الصباح الباكر وعلى أوقات تدفق الناس إلى أعمالهم ووظائفهم، لنكون على أهبة الاستعداد لأي طلب، ولا نرى منهم غير أرجل رفعت على نظرنا ووضعت في وجوهنا، فنشعر بعض الأحيان بالاستياء من ناس متعجرفين ويدّعون الكبرياء، ويرمون لك بالقليل من المال ولا يردون عليك فأنت أقلهم ولست بمثلهم وكلامك عندهم ادعاء وافتراء.
* أم مالك ترفض بالجزم والقطع تصويرها وتقول: لا يا بنتي لا أريد أن أقهر أولادي، يكفيني ما أسمع من أقاربي أني أتجول في البراري والبساتين لأجز بعض الأعشاب وأبيعها في السوق (الله لا يشبعها) وترد على سؤالنا في جلوسها على الرصيف لأعوام، فترد بجمل وعبارات مقطعة الأوصال وكأنها ترفض ما يجري لها، إذ بعد عمر هانئ قضته مع الزوج الذي عزم وتوكل بعد هذا العمر أن تزوج (الختيار) وقد بدت عليها ملامح الكبر والوهن وكأن الأمر من الكبائر وتركها دون معيل أو سند بعد فقدان الابن في الأحداث ولا تعلم عنه شيئاً منذ خمس سنوات وترفض قول الجميع أنه ميت، وابنتها سافرت إلى السويد مع زوجها وأولادها الصغار، مما اضطرها للعمل وجني لقمة العيش، فهذا الزمان غدار، تلم الأعشاب من جبال قريتها وتأتي بها للمدينة حيث الناس يرغبونها وتخيم على رصيف في سوق الريجة وبين أقدام المارة ينكب وجهها وتلفحها رياحها إلى أن يسألها أحدهم أعطني تلك الباقة وهذه، ويرمي لها بورقة أو اثنتين تكفيها خبز عيش اليوم وكفاها الله.


* أم سعد، والسعد يأتيها من ناس خيرين و(مريشين) تلج أبوابهم عند أول ساعات الصباح لتمسك بأدوات التنظيف والمساحيق وتبدأ بشطف البيت من بابه لمحرابه وتلمع البلور وتغسل وتمسح كل ما وجد فيه من كريستال وتحف وغيرها ما يكتنزه المطبخ من صحون، فلا تستطيع بعد هذا العمل الشاق أن ترفع ظهرها فقد قصم من (النص) كما تقول، وقد تعود فرحة ومسرورة وهي محملة بالمال وبعض الطبخ لأجل صغارها الذين ينتظرونها في البيت وأمعاؤهم خائرة من الجوع، وقد تزداد بؤساً وشقاء من سيدة منزل غسلتها بكلام توبيخها، ونشفت فيها القلب والريق، ورمتها خارجاً بادعاء أنها سارقة ولم تحفظ حرمة البيت.
* السيد كمال، هو كما يقول سيد نفسه وعلى الجميع أن يعلم أنه يعمل على رأيه وليس بما يأتيه الآخرون، وكان أن رد على سؤالنا والبسمة جلجلت على اتساع وجهه ونبرة صوته التي تهجمت في فمه بازدراء واستهزاء: نعم أفرغ ما في الحاويات من أغذية أو ماكينات أو مستلزمات لها وزنها وثمنها في سوق النخاسين.
* يقول هو أبو دلال، وأي دلال لعائلته اليوم، وقد رجع خائب الظن وفارغ اليدين من الحي الذي قصده اليوم، وأكياسه التي اعتلت صهوة دراجته الهوائية نفخ فيها الهواء طبولاً تقرع بالجوع وتقرع صاحبها بالعتب واللوم والحسرة، فكان أن قصد مكاناً آخر وافترش الرصيف المقابل لتلك الحاوية التي استكانت في الرمل الشمالي قرب المطاعم والسوبرماركت وبين يديه سيجارته ينفث دخانها وسط هموم وآلام، وقد حفر الزمان الوسخ على وجهه القسوة والجفاء وكيف لا؟ والناس ينظرون إليه باشمئزاز وقرف، وليرد (الصاع على نفسه التي يلومها دائماً على أنها لم تشجعه على الدراسة ويحظى بوظيفة كما كل الناس بثياب نظيفة، صاعين) أصبح موظفاً في البلدية (زبالاً) حتى أولاده عندما يغضبون أو يسمعون من رفاقهم شتيمة أو نعتاً بابن الزبال يردونها عليه ويرمونه بقشور بواطنهم ودواخلهم من خردوات استعاراتهم وسخريات الناس، في حين زوجته الطيبة من بين كل الناس تقول له عند دخوله البيت (الله يعطيك العافية يا زينة هالحي، نظفته وجملته والناس كلهم ممنونون) ليضحك وتنفرج أساريره، ابنه يتمنع عنه ويجافيه لأنه لا يرد عليه ويترك المهنة وابنته التي تدرس الطب تفتخر به لأنه أوصلها إلى أعلى المراتب، وإذا ما وجدت في البيت فإنها تطمئنه وتفرحه بكلماتها التي ترطب قلبه وتقويه.
* شابة في مقتبل العمر، تكنس الرصيف والطريق في المشروع السابع، تلف وشاحاً على صورتها فلا تكاد تلمح غير بريق العينين، اقتربت منها وهي تتحاشاني وتبتعد، قلت لها لا تخافي ليس مني أذية ماذا تفعلين؟ فردت بكلام قليل وقد انخفضت عني بناظريها، فأكاد أسمعها تقول: الحياة صعبة (بدنا نشتغل وبدنا نعيش وما بدي مد إيدي لأحد) ومعي شهادة معهد تقني ولم أحظ بوظيفة، غير أني عملت في أعمال خاصة ومكاتب تعرضت فيها لإهانات وتجريح وحتى عنف، ووجدت هذا العمل غير متكلف ولا خفيف، لكن ما أثناني عنه لسنتين نظرة الناس وليس من علاج غير الابتعاد عن مساكننا ولف الشال على الوجه فلا يتعرف علينا أحد وهنا أنا وصديقة لي وبعض الشباب كما ترين وكلهم أصحاب شهادات، وأظن هذا العمل أفضل من السؤال والحاجة، والشغل ما عيب) العيب أن تمدي يدك حتى لو كان أخوك أو أبوك، وأفضله على العمل في مكتب أو عيادة قد نتعرض فيها للظلم والبؤس.

هـدى سلوم – معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار