لوحة من التراث الشعبي في الريف الساحلي

العـــــدد 9524

الخميس 6 شــــــباط 2020

 

لم أتجرأ أن أفاتح جدّك بموضوع زواج أبيك لأنه كان عنيداً لا يتراجع عن كلمةٍ يقولها ولو قطعوا رأسه فخفت إذا ما فاتحته بالموضوع وقال (لا) أن ينتهي الأمر، فخططت أن وأجعله فرحاً راضياً (وكان لا يضحك للخبز الساخن) وقررت أن أحضّر له (قرص ترموسة) على ذوقه..
بهذه الكلمات.. وثقّ المؤلف عيسى أبو علوش في مقدمة كتابه: من عبق التراث في جبال الساحل السوري جزءاً هاماً من خصائص الحياة الريفية عبر رصد عادات الأجداد في المأكل والمشرب مشيراً إلى حكايا جدته المتوارثة حتى صارت جزءاً من الثقافة الشعبية وقد أوضح المؤلف على لسان جدته آلية تحضير قرص الترموسة الذي يسهّل عملية فتح الحوار مع الجد بسبب محبته للترموسة فقالت الجدة: ذهبت إلى الخربة (الأرض التي يزرع فيها نبات السلق) وقطفت منها ورق السلق بالسكين ثم غسلته في ساقية العين بشكل جيد وعدت به إلى البيت وفرمته بسكين حادة جداً وفرمت البصلات وذهبت إلى (رامية الطاحون) فأحضرت باقة من ورق القرنية (نبات مائي شكله بين الجرجير والنعناع، حادٌ قليلاً، رائحته زكية ويسمى القرة أيضاً) ثم وضعت الجميع في الطست النحاسي وأضفت الملح وحركت هذه الخلطة جيداً ثم أتيت بالبوتية (جرة صغيرة من الفخار) فوضعت الزيت اللازم وحركت الخلطة مرة أخرى ثم غطيت الطست بالجويلة (طبق صغير مصنوع من قش حصيد القمح) ثم أخرجت من سدّون الطحين حفنة وطحنتها في طاحون (أبو قبيس) وأنا عائد في طريقي إلى ضيعتنا ثم عجنتها بقصعتنا المصنوعة من خشب الجوز وتركتها تختمر وذهبت أنجز أعمال البيت الأخرى وأطعمت الدجاجات والعنزات والبقرات… وعندما عدت إليها وجدتها قد ملأت القصعة من شدة التخمر ورائحة الخمير الحامضة تملأ المكان لأنني كنت قد تأخرت عليها، ثم رققت العجين ووضعت الحشوة فوقه وأعدت تجميع أطراف العجين لتلتحم مع بعضها ثم رققته مرة أخرى… ذلك أن أخرجت النار من الثفية وكشفت عن البلاطة في قاعها ونظفتها من الصفوة وكانت حامية جداً لأن النار لم تنطفئ عنها طوال ذلك اليوم المطير، وبعد فترة شممت رائحتها فكشفت عنها ووجدتها ناضجة فأخرجتها ونفضتها جيداً و نظفتها من الصفوة ووضعتها على جويلة صغيرة جديدة ونظيفة وغطيتها بجويلة أخرى وناديت على جدك ليأتي ويأكلها ساخنة فيرضى ولا يعصّب عليّ وبعد أن التهمها عن آخرها قال: الحمد لله على هذه النعمة، ومسح شاربيه غير المشذبين بيده، ولم أرهما طوال حياتي معه مشذبين، ثم مسح يديه بقطعة قماش وقال: والله يا أم علي طيبة هالترموسة، الله يسلم يديك لكن القرنية فيها زائدة قليلاً لذلك فإن طعمها حدّ بعض الشيء.. لكن بالله العظيم طيبة، الله يعطيك العافية… لاحظت عليه الانبساط والانشراح، وهدوء البال، فقررت مفاتحته بالموضوع.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار