أمطـــــــار «الربيــــع العـــــربي» في ســــــماء الفــــــن التشــــكيلي…

العدد: 9520

الاحد: 2-2-2020

 

 

لم يكن ربيعاً عربياً ذاك الذي مر على بلداننا العربية ولم يرتق إلى طموحات شعوبها بل كان شتاءً قاسياً ترك آثاره التي لن تمحى أو تنسى بسهولة، مخلفاً ويلات ومجاعات وبيوتاً مهدمة وأحلاماً محطمة…
كذلك كان وقع ذلك الشتاء أو فلنقل تلك الحروب على الفنانين التشكيلين حيث تلونت أعمال غالبيتهم بالحزن ولربما هرب بعضهم من لعنة الحرب إلى عالم الخيال والفن ليجد سكينته وملاذه…
حول تأثير الحرب على الفن التشكيلي العربي كانت لنا لقاءات وحوارات عدنا لكم منها بالآتي:
يرى الناقد والفنان المغربي محمد سعود أن الحروب التي شهدها العالم العربي لم تكن ذات انعكاسات إيجابية على الفنانين العرب سواء حرب الخليج أو الحرب الأهلية وحروب أخرى في اليمن وسورية وليبيا لم يكن لها تأثير كبير في الفن، ويكفي أن نشاهد الأعمال التي أنجزها الفنان الإنجليزي (بانكساي) عن فلسطين لنرى التفوق في تأثيرها على كل ما أنجزه العرب مجتمعين، والسبب هو أن جل الفنانين العرب لا زلوا مرتبطين بحامل واحد وهو اللوحة وما دامت اللوحة مرتبطة بالجدار والجدار معرض للدمار والخراب لن تظهر أعمال كثيرة، ولو استغلت وسائط جديدة وأساليب جديدة تتساوق مع الفن المعاصر لكانت أكثر ثراء وانتشاراً وهذا ما أدركه الكثير من الفنانين والفنانات مؤخراً بعد هجرة بلدانهم من جحيم هذه الحروب، وأصبحنا نشاهد ظهور أسماء جديدة في أوروبا وأمريكا وكندا نتيجة الاحتكاك بتجارب فناني هذه البلدان، وكذلك بعض العروض الفنية في لبنان التي لازالت تختصر مآسي الحرب الأهلية في هذا البلد.
أما الفنان والناقد التشكيلي العراقي علي النجار فيتحدث عن تأثير الحرب على المنتج الفني العربي قائلاً : أمامي خمس صور لخمسة أعمال فنية لفنانين عرب معظمهم مهاجرون أو مقيمون في الخارج (وأنا عندي أن الأمر سواء)، أعمال اشتغلت على موضوع الحرب، أو تداعياتها ونتائجها.
العمل الأول للمغربية الفنانة (بتول شيمي) يمثل (قدر ضغط) محفور عليه بالأسود خارطة الوطن العربي، العمل الثاني للفلسطينية (منى حاطوم) يمثل عكازتين مركونين على الحائط وتنسحبان على الأرضية، العمل الثالث للمغربي (منير الفاطمي) يمثل ثلاث فتيات بأحزمة ناسفة من الكتب والأسلاك وغيرها، العمل الرابع للفلسطيني القاطن في مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين في بيروت (عبد الرحمن كتاني) المعنون فتاة مع طائرة ورقية، الصورة الأخيرة لبوستر معرضي عن اليوانيوم المنضب، مع شعار المعرض جسدين متفحمين.
الأعمال هذه هي بعض من كم كبير من أعمال فنانين عرب من مختلف الأقطار، بلدان تعرضت لمآسي الحروب المتكررة، اختلفت أساليبهم ووسائلهم التوصيلية ورسائل بثها حسب جغرافيا ومحيط تنفيذها من أجل إيصال رسالتها الفنية بالشكل المؤثر، لذلك شاهدنا معظمها اشتغل على الفكرة كمفهوم معاصر قابل للتفكيك وإعادة البث، بعضها الآخر تأثر بأسلوب رسوم الشارع (الكرافيتي) كما عمل (كتاني) التي أعتقدها الأكثر مواكبة للحدث، كما في رسوم جدار العزل العنصري الإسرائيلي ورسومه الإشاراتية، وما بين توثيق الحرب كمنطقة ساخنة اختزالاً، وما بين توثيق الحدث دلالياً، لا تزال الساحة التشكيلية العربية وبشكل خاص في المناطق المنكوبة والمتعثرة في سلمها المجتمعي تنتج معادلها التعبيري، وبات الكثير من المحافل التشكيلية العالمية تقدم نتاجهم كظاهرة جديرة بالانتباه، وهناك أسماء تشكيلية من مختلف البلدان العربية سواء منها المحلية أو المغتربة لا يزال نتاجها التشكيلي المتفاعل مآسي شعوبها من نتائج الحروب العالمية والمحلية يثير اهتماماً وجدلاً.
أما الفنانة السورية تهاني مشعل التي تأثرت حياتها كما فنها بقسوة الإرهاب الذي طال مدينتها حمص بأبشع طريقة، تقول عن ذلك: الحرب، وما أقساها من كلمة وكم تحمل من صور بشعة ومؤلمة للفكر وللفؤاد وكم هي نقيضة لكلمة فن، الفن الذي يزدهر بازدهار السلام والأمان، هو أنقى الصور العاكسة للثقافة والرقي والمحبة والجمال، وهنا تبدأ حكاية مدينتي حمص، مدينتي من أجمل المدن فيها نكهة من عبق التاريخ وأجمل صور التطلع والعمل لمستقبل رائع.
كانت حمص ولا تزال ولادة الفن والفنانين أثبتت بجدارة أهميتها الثقافية والفنية من خلال الحراك الثقافي والفني الذي كان جاذباً لكل الفنانين الأوائل على مستوى البلاد والمهتمين من فناني العالم حتى، وكثرت الملتقيات والمعارض والمراكز التدريبية للمواهب للحرص على إخراج جيل واع للفن ومحب له ومبدع في جميع مجالاته ومدارسه المختلفة، لكن لم يرق هذا للأيدي الغادرة التي عبثت بالبنى التحتية والثقافية والجمالية لبلادي وكان نصيب حمص الأكبر من الدمار العمراني والفكري، ما مرت به مدينتي لم يكن من السهل تخطيه، يد الإرهاب ركزت على تدمير الصروح الحضارية والتاريخية لذا كان لابد من أن يظهر تأثير ذلك كله فيما قدمه الفنانون السوريون بشكل عام في أعمالهم التي أرخت هذه الحقبة بكل ما فيها.
ويجد ساطع هاشم التشكيلي المغترب في ليستر، إيطاليا أننا نتعرض منذ زمن طويل لحرب ألوان عنيفة وشرسة، يتجسد كل لون فيها بإيديولوجيا ومفاهيم أشكال أعلام معينة تنعكس على سطح الأخبار المرئية والمقروءة وفي حياة الناس وفواجعهم، لكننا لا نعرف بعد إلى أي مدى انعكس ذلك في العمل الفني العربي المعاصر، وحروب الألوان في التاريخ ليست جديدة أبداً، وربما لم تعرف البشرية منذ نشوئها إلى الآن ثورة أو حرباً لم تصطبغ بالألوان.
ويتابع الفنان قائلاً: من خلال متابعاتي للإنتاج الفني التشكيلي العربي أعتقد أن الفنان في العالم العربي لم يعالج إلى الآن مشكلة اللون بإخلاص وعلمية وفي علاقته بالشكل بشكل جدي وعميق، ومازال ومنذ سبعين سنة مفهوم عائم، أو في أحسن الأحوال وعاء زخرفي لتزيين الأعمال الفنية لا يثير أي رغبة في التفكير لدى المشاهد، رغم براعة بعض الأسماء اللامعة بالتلوين القليلة عن ردنا، ولا أحسب أن هذا النقص يعود إلى كسل أو عدم إدراك لهذه المشكلة من قبل الفنان العربي بقدر ما هو تحصيل حاصل لمآسي العرب وانتكاسات الثقافة الفنية المتكررة وانعدام الاستقرار، وإلا لكنا قد شهدنا المزيد من الفنانين الباحثين والمبتكرين أو المطورين لتجارب إنسانية حقيقية عالمية أو محلية، ولابد لأي تحسن في الظروف المعيشية للناس وإطلاق عجلة التنمية والاعمار، أن يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى تغير في جهة البحث الجمالي لدى الفنان ولابد أنه سيفضي إلى مالا يمكن توقعه، لأن أية طريقة جديدة في تصوير الضوء وفهم اللون وعلاقته بالشكل تعكس تحولاً في الحضارة كلها..
ألوان الطيف الشمسي عند الرسامين ليست كشفرة ألوان الطيف عند العلماء بالمختبرات، والصعوبة في ذلك هو أن العالِم بالمختبر يرى فيها موجات كهرو-مغناطيسية لها حرارة وتعطي ألواناً، فهو مثل الحداد الذي يصهر الحديد ويعرف إذا اقترب لونه من الأحمر فإنه حار جداً ولكن ليس بما يكفي بعد لطرقه، فيجب أن يقترب من البرتقالي ثم الأصفر وأخيراً الأزرق والأبيض حتى يستطيع طرقه أما للرسام فهو أحاسيس ومشاعر ينبغي تأملها وتمثلها حتى يمكن طرقها جمالياً كبعد فني حسي بتأثير من علاقتها بالأشياء الطبيعية التي يمكن رؤيتها ولمسها، ومن خلال هذه الأشياء يراقب انعكاس الأطياف الضوئية على ذاته في لحظة عابرة، وبوعي وإحساس داخلي تلقائي، وغالباً ما تبدأ بالتساؤلات عن جدوى وجود الحياة أصلاً والبشر خصوصاً في الطبيعة وحياتهم العبثية والتافهة، وهذا يعود إلى طبيعة الألوان نفسها ووظيفتها الاجتماعية وإحساسنا بها حيث أنها مركب اجتماعي وبيولوجي في وقت واحد, أقول (اجتماعي) لأن اللغة البصرية للناس تعتمد على عقيدة أو أيديولوجية أو فكرة معينة متفق عليها بين الاتباع يتربى عليها الفرد وتنصهر في وعيه خلال سنوات حياته كلها لتشكل إدراكه بهويته المحلية أو البيئية وتتجسد في أشكال ورموز ملونة بألوان محددة يقررها المجتمع ويفهمها جمهور تلك البيئة أو الدولة أو العقيدة أو المذهب، ووظيفة هذه الرموز هو استحضار تلك الأفكار الاتفاقية المجردة في الذهن بدون شرح أو كلام، وهذه هي طريقة الإنسان في الفن كوسيلة في الاتصال ونشر الأفكار كجزء هام من الوعي البشري وجد في حياة البشر منذ أن انفصل الإنسان عن مملكة الحيوان الكبرى قبل ربع مليون سنة على أقل تحديد, وتطور باتجاهات مختلفة لدى شعوب العالم لتعكس الجانب المحلي لعاداتهم وتقاليدهم، ولإيضاح ما نقصده هنا كتجسيد عياني بصري لهذه العقائد والعبادات، لنعود إلى متاحفنا في الشرق الأوسط ونتطلع إلى ماضينا البعيد من خلالها، وإلى اللون الأسود تحديداً لأنه من أكثر الألوان تقديساً في حضارات الأجداد العظام من سومريين وأكاديين وبابليين وآشوريين وغيرهم، فقد صنعت المئات من التماثيل بالحجر الأسود للملوك ومسلاتهم ورموزهم المهمة، مثل مسلة حمورابي الشهيرة وتماثيل كوديا ملك سلالة لكش والآلاف من التماثيل السوداء صغيرة الحجم التي كانت تدفن مع الموتى لتضمن لهم الخلود والمئات من الأختام الأسطوانية سوداء اللون التي استعملها الملوك وقادة الجيوش وأصحاب الأراضي والموارد، وعندما أسس المسلمون الدولة العباسية بالعراق اتخذوا من العلم الأسود شعاراً لهم وذلك بتأثير من الديانات المحلية العراقية القديمة الراسخة في عموم بلاد الرافدين، وكانوا مجبرين على التكيف معها، فلم يتمكنوا من القضاء عليها نهائياً ولا على رمزية اللون الأسود الخالدة كما فهمتها عقائد الأقدمين، لذلك فالمسلمون مازالوا إلى الآن يقدسون الحجر الأسود كما كان يفعل قدماء أهل العراق ويغطون الكعبة بالقماش الأسود، وهذه أسئلة حاضرنا ورموزه، وأيضاً تراثنا وثقافتنا على مر الزمان وسنبقى نسأل بلا أن نجد جواباً: ماهي ألوان الحرب في فنوننا المعاصرة؟ ما هي الأفكار التي تختفي وراء هذه المظاهر؟ وكيف حُمّلَت معنى؟
وهل مازالت مستمرة في مجتمعاتنا وفي فنوننا في زماننا هذا وكيف؟
وفي هذا الحديث الذي لا يمكن أن نحيط بكل تفاصيله مهما حاولنا لأن (شمس الربيع الأسود) مازالت تشرق كل يوم، نختم استطلاعنا بكلمات التشكيلي الجزائري عبدالحميد صحراوي التي جاءت ملونة بالوجع والحرقة حيث يتحدث عن تأثير الحروب والمآسي وما يخلفانه من دمار وكوارث على الوطن، وهذا بدوره ينعكس على الفنون والآداب فالفنان يتأثر ويبدع ويرد بصدى عقلي وفني عما يحيط به من فوضى وقتل وتعديات.
ويضيف صحراوي: ما جرى في الجزائر كان تخطيط أياد خفية ولولا وعي الشعب الجزائري وحنكته لأصبحت بلادنا في خبر كان، وكفنانين كان عملنا مساندة وتبيان الخلفيات السياسية والجيوسياسية بأعمال رمزية وواقعية طغى عليها اللون الأحمر المعبر عن الفترة الصعبة التي مرت، وعلى صعيد شخصي قدمت خمسين لوحة تعبر عن الكارثة فأنا أؤمن أن الفنان مرآة مجتمعه ووطنه وبفنه يسهم في استقرارهما وتطورهما.
ولو أردنا أن ندخل في أعماق الأعماق فلابد أن نعد مئات الكيلو مترات من أطوال القماش ومئات الأطنان من الألوان والصبغات حتى نبدع ونرسم ما تم من الأمر.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار