العدد: 9514
الخميس: 23-1-2020
كلما زرت قريتي أقف مشدوداً إلى تلك السفوح المكسوة بخضرة طاغية, يجنح بيّ الخيال ليرميني في سحر المكان.
يوم العطلة الفائت كان سخياً بدفئه وهدوئه ورائعاً بانتمائه لشتاء عابق برائحة النرجس أحسست بفيض يشبه الفرح وأنا أطلّ من شرفتي على غابة من سنديان معمر.
ازداد إعجابي بما كان كتبه رسول حمزاتوف عن قريته (تسادا) التي حملها خفقة في قلبه ووردة بين يديه وقدمها على هيئة الآلهة حيث كل ما فيها يبعث على التأمل والفرح والحبّ والجمال.
في كتابه داغستان بلدي يصوّر حمزاتوف تعلقه بقريته الجبلية التي يركع أمامها وينهل من ينابيعها بعد غربة قادته إلى معابد الهند وأهرامات مصر وأرصفة فرنسا وفي تلك الغربة تعرّف على نساء كثيرات خفق قلبه معهّن بهدوء لكن في قريته خفق قلبه بازدياد حيث فتاة قريته التي تحمل حزمة الحطب أجمل من أية فتاة اسكندنافية شقراء شقية رشيقة.
إنه الوفاء للمكان الذي قال عنه أحد الشعراء.
قد يهون العمر إلا بساعة
وتهون الأرض إلى موضعا
كثيرون حاولوا أن يكونوا حمزاتوف ومن عطر كلماتهم نشتم عبق الأصالة كما تعبق رائحة السنديان والبطم والريحان بسفوح الجبال.
الزميل المرحوم سهيل خليل هام في حقول قريته وندى صباحاتها سار على دروبها الضيقة وتفيأ ظلال أوديتها وغسل روحه بمياه سواقيها وذلك في مجموعته القصصية ( حكايا من قرية سربيون). سألته مرة عن أبطال تلك الحكايا هل هم من نسج الخيال وعبقرية القريحة وفيض الخيال المجنح فأجاب: هم أشخاص عشت معهم في زمن كانت الحياة ضنينة لذلك بقوا حاضرين في أقاصي النفس والوجدان ومنهم كانت مادة تلك الحكايا وأردف: مرة اصطحبت والدتي إلى دمشق لسبب صحي وعندما وصلنا إلى المحطة الأخيرة في كراجات ( الهوب هوب) وألقت بنظرها على تلك الجموع من البشر بدأت بالبكاء مطالبة أن أعيدها إلى سربيون مرددة يا سهيل لقد نسيت روحي عالقة على الساموك.
وعود على بدء فإلى قريتي تتسارع أنفاسي كل يوم عطلة عشقاً لها ورغبة في كمية أكبر من الأوكسجين النقي يخلصني من السموم وروائح البنزين فالحياة هناك تنبض بالصدق والدفء تنشره مدافئ الحطب في أيامنا الباردة، لكن بحاجة إلى الارتماء بتلك الحقول وللاغتسال بندى الصباحات والاقتراب من الموقدة وحطبها وما يدور حولها من حكايات فحب الموطن الصغير هو محطة انطلاق واثقة سليمة لحبّ الوطن الكبير.
إبراهيم شعبان