«بطــــــــــــــــاقة إلى الجــــــــــنة»

العـــــدد 9512

الثــــــلاثاء 21 كانون الثاني 2020

 

رفعت يدها بطريقة هزلية ملوحة بشيء ما وقالت ليزا: خذ هذه بطاقتك إلى الجنة، احرص ألا تموت قبل وصولك، وانصرفت وأنا ألمح خيطاً أسود يشق طريقه من عينيها نزولاً.
ضحكت من قولها، يجب ألا أموت قبل وصولي الجنة، أنا ميت حقاً يا ليزا، وهل غير الميت يرفض حب امرأة جميلة مثلك؟ أنت بطاقتي للجنة وقد أضعتك.
لم أكلف نفسي عناء مرافقتها إلى الباب مشيعاً حلماً آخر، استلقيت على ظهري أرقب السقف، ثمة لوحة ضبابية ترتسم لوحدها مع تقشر طبقة الدهان بتأثير الرطوبة، تبينت من طلاسمها ذاتي الحمقاء، تشكيلي خمسيني أحمق تمسك بمرسم قديم في مدينته، رفض النزوح مع كل الناس الطبيعيين الذين خافوا على أسرهم وهربوا من القذائف الإرهابية إلى مدن آمنة.
أجل لم أكن طبيعياً وما زلت، خسرت مرسمي والجزء الأكبر والأهم من نتاجي الفني وثلاثة من أصابع يدي اليمنى، وقتها أجبرت على النزوح لأني كنت بلا مأوى، فبحثت عن ملاذي بين معارف وأصدقاء قدامى لأصير عالة عليهم ريثما شفيت.
لم تعد أصابعي قادرة على اللعب إلا بهاتف جوال أتواصل من خلاله مع أهل الفن وأعرف أخباره لأدرك أن قسماً كبيراً منهم صار في الساحل فقررت أن أحذو حذوهم فلطالما دعاني أصدقائي في العالمين الافتراضي والواقعي للمضي إلى البحر.
وها نحن أخيراً، وجها لوجه أيها البحر، أنت لن تسخر من عجزي وضعفي ولا يهمك أيها الوفي بكم إصبع أتيت، لكنهم لم يفعلوا.
سبعة أشهر لم أتجرأ فيها على الإمساك بريشة، ابتعدت فيها عن الحامل والقماش ورائحة الأصبغة، وهل أملك ثمنها لأفعل؟
بعد الشهور السبعة جاءت أختي من مدينة ثانية وتغير حالي، وجدت مع عائلتها الأمان النفسي والمادي فزوجها متعهد بناء ميسور، واقتنعت بالعودة للفن بعدما تأقلمت مع حركة يدي الجديدة وصرت أرسم وأرسم وصار الرفاق يقولون ممازحين: عادت البقرة الحلوب عادت غزيرة الإنتاج.
عدت للرسم وبدأت بحضور معارضه والمشاركة في ملتقياته لكن لا أدري لما شعرت أنني منبوذ في ذلك المجتمع، وأدركت أنها الشللية في الفن التي تقوض إبداعنا، أردت الصراخ في وجوههم: أيها القوم الميدان واسع وساحات الإبداع تتسع للجميع.
أجل بعض الفنانين رماديون يليق بهم لون النفاق، يظهرون لك التقدير ويرمون بخناجرهم في الظهر.
لم يكن الأبيض لوني المفضل ولم أكن سوداوياً، بالفعل كنت أحب الأزرق ولو امتلكت جرأة فنانة بحرية لصبغت شعري مثلها بلون الموج.
وهكذا وجدت نفسي مع قلة قليلة تشاركني المأساة نفسها، فانصرفت عن المعارض قليلاً وانشغلت بإعطاء دروس في الرسم للمبتدئين من أعمار مختلفة وكانت ليزا….
لم تكن ليزا نوعي المفضل من النساء فلطالما أحببت ممشوقات القامة بشعر أسود طويل وثقة عارمة.
أما امرأة قصيرة بشعر أشقر قصير مع عقد نقص لا تنتهي كانت آخر ما يمكن أن يشغلني، لذا أعطيتها مواعيد دروس ابنها دون أن أعذب نظري كثيراً في رؤيتها.
أحببت (آدم)، كان شعلة من الذكاء والموهبة يسرد القصص ويرسم ويغني ويتحدث بعفوية، أخبرني ذات مرة أن أمه معجبة بي فهي دائمة التحدث عني وعن فني، وقال إنها تود لو أعلمها الرسم.
صارت ليزا طالبتي المفضلة، أرملة ثلاثينية مثقفة أم لطفل في السابعة بعينين زرقاوين أدركت لاحقاً أنهما لوني المفضل وتفاصيل صغيرة في وجهها وجسدها جعلتني أراها أجمل نساء العالم بعدما أدمنت حديثها وشغفها بالفن وصارت رفيقتي إلى المعارض تهمس في اذني ضاحكة: انظر إلى الحضور في الصالات الخاصة كيف ينتفخون ويشمخون ليرتقوا إلى فخامة الصالة وأجوائها المخملية، راقبهم لاحقاً في صالات حكومية أو ملتقيات لتعرف الفرق.
كان كلامها يعجبني، تثرثر كثيراً لكنه كلام حقيقي، ذات مرة أخبرتني: أن كل تشكيلي في البلد يعتبر نفسه رائد الحداثة، وكل منهم هو الرقم واحد في مدينته وكلهم يتجاهلون بعضهم و.. وأشياء أخرى تعري الكثير من الأحداث.
كانت صديقة رائعة وكنت جباناً تجاهلت الحب في عينيها وعاملتها كأنثى أقل من طموحاتي لأني كنت مدركاً أني سأكون مخيباً لطموحاتها فأنا لم أنجح يوماً في الغرام وطلقتني زوجتي بعد أربعة شهور من زواجنا.
لذلك باءت محاولات ليزا بإثارة غيرتي بالفشل على الأقل ظاهرياً، وحاولت إظهار لامبالاتي تجاه هذه القضايا، لذلك انتهى لقاؤنا الأخير بخيبة كبيرة حاولت أن أضع فيها حداً نهائياً لتطلعاتها.
نهضت عن أرضية الغرفة أمسكت سترتي ودسست فيها بطاقتي إلى الجنة دون أن أقرأ محتواها لم أكن مستعداً لشيء.
مضيت على عجل لحضور المعرض السنوي لفناني المحافظة وصلت بعد السابعة بعشر دقائق، بحثت بعيني عن غزال شارد لم أجده ولكني توقفت فجأة في الصالة التي دارت بي، صالة حكومية، تذكرت كلامها وأنا أشاهد الحضور ذاته يتصرف بعفوية وبساطة، ضحكات عذبة وهمسات و…
أخرجت يدي من جيبي كانت البطاقة مازالت علاقة بين إصبعين يتيمين، قرأتها، لم تكن رسالة منها بل دعوة لحضور حفلة موسيقية في السابعة لتكريم الموسيقي طاهر مامللي، حفلة يذهب ريعها لجمعية تعنى بشؤون مريضات سرطان الثدي، لا أدري ما الذي دار في ذهني حينها لكني خرجت بطريقة هستيرية وألف فكرة تدور في رأسي حتى كادت تصدمني سيارة مستعجلة، علي أن أحرص ألا أموت كما طلبت مني.
وصلت الحفلة التي بدأت قبل ساعة دخلت المكان وأذهلني الحضور الكبير، لقد فاتني الكثير كعادتي.
(يقول الزير أبو ليلى المهلل وقلب الزير قاسي ما يلين) كان ثمة صوت ملائكي يصدح ترافقه موسيقى من عالم آخر وأنا أبحث بعيني أعمى عن فرصة أخيرة للنجاة، تابعت ما تبقى من الحفل وأنا أدرك حجم خيبتي بما فاتني من جمال، أخرجت جوالي لأرسل لها رسالة أني هنا لكن شحنه كان قد انتهى.
انتهت الحفلة التي أقل ما يقال في وصفها إنها رائعة وبدأت أفتش عن جوهرتي،
كانت ليزا بقامتها القصيرة ترتدي سترة زهرية وتضع شريطة بنفس اللون على شعرها وسواراً في يدها، حين اقتربت منها كانت صديقة تشد على يدها ستتجاوزين المحنة وتكونين أقوى منها.
التفت وراءها ورأتني، ابتسمت كعادتها، وقالت: إذاً لم تمت.
أمسكت يدها معتذراً: لم أمت فأنت تستحقين أن يحيا المرء لأجلك.
تعالي أخبريني بما فاتني هنا لأحدثك عما جرى وتعرفينه في المعرض، ومضينا ويدها الصغيرة تمسك بإصبعين قويتين وباليد الأخرى يمسك آدم بثقة فنان ومحبة طفل.

نور نديم عمران

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار