العـــــدد 9507
الثلاثـــــاء 14 كانون الثاني 2020
هي إشكالية قديمة حديثة، تفوق جنس أدبي على آخر، ولطالما أثارت هذه الإشكالية جدلاً في الأوساط الأدبيّة والعامّة عند بعض المهتمين، واليوم لا يُنكرُ إنه بشكل عامّ، هناك انحدار في الأدب بكلّ أصنافه، لأنّ أغلبه أصبح مستهلكاً ومقتبساً ومسروقاً، والبعض الآخر تطغى عليه الصفة التجارية الربحيّة من قبل الأديب، أو من دور النشر، هي إشكاليات أخرى يعاني منها الأدب ولسنا بصدد الحديث عنها، وإنما سيقتصر سؤالنا هل نحن اليوم حقاً في زمن الرواية؟ إذ يتفق الأغلبية، وحتى الجميع أحياناً، أنّه زمنها ولها الغلبة، ليس فقط على الشعر، بل وعلى القصة والمسرح لا نحتاج لجهد كبير أو بحث دقيق أو دراسات إحصائيّة لنعرف أن الرواية مسيطرة، فنظرة سريعة إلى حجم المبيعات من الروايات مقابل مبيعات كتب الشعر، وعدد الجوائز العربية والعالمية التي تحصل عليها الرواية كفيلان بتأكيد هيمنتها على الساحة الأدبية، فما هي الأسباب لذلك؟ هو سؤال توجهنا به إلى أدباء يكتبون في كل الأجناس الأدبية وجاءت إجاباتهم كالآتي:
* زهير جبور، روائي وقاصّ: اعتبرت الرواية في النصف الثاني من القرن العشرين ديوان العرب، في حين أن ديوان العرب القديم كان الشعر، وربما اعتبرت الرواية ديوان العرب لأنّها تحمل الكثير من التفاصيل عن الحياة العامة، ورصدت في ذلك الوقت هموم أبناء الوطن العربي، حملت روايات نجيب محفوظ الهمّ المصري، وحملت روايات عبد السلام العجيلي في سورية الهمّ البيئي، وكذلك وليد إخلاصي ومجموعة من الروايات أخذت تدريجياً هذه التسمية، لكنّ هذه التسمية (ديوان العرب) بدأت في التراجع من بداية القرن الواحد والشعرين، لأنّ الرواية بشكل عام تراجعت في الوطن العربي ولأن المواضيع التي تناقش لم تصبح بعيدة عن الهم العام، لكنّها ابتعدت عن معالجة ونقل هذا الهم العام، وعمل الرواية فهم الواقع وتغييره، وعندما تخرج عن هذا المفهوم تتحول إلى (فانتازيا روائية) تقدّم شيئاً ثميناً كتُحفة، لكن بعيداً عن الجماهير وهمومها.
* أمل حورية- روائية وقاصّة: ليس للرواية زمن، فهي لكل الأزمنة وسوف تبقى في صدارة الآداب النثرية رغم أنف هذا الزمن يهتّم بالوجبات السريعة، للرواية بعداها الزماني والمكاني المتكاملان، وأحداثها المتشابكة الموغلة في الأبعاد الجمالية، وشخصياتها التي تتحرك في فضاء الحدث الرحب، فيشفي السرد غليل المبدع وكذلك المتلقي، على عكس القصة القصيرة التي وإن صنفت على أنها أصعب كتابة من الرواية لأنها سردٌ مكثف لموقف حياتي يجب أن يترك المتلقي في حالة من الدهشة، لكن الرواية هي الجنس الأدبي المفضل للكثير من القراء، تشهد عليه مبيعات الرواية في كل أنحاء العالم وليس الوطن العربي فقط أو محلياً، أما بالنسبة للشعر فقد كان ومازال (ديوان العرب) الحافل بمآثرهم والمدّون لكل ما يريدون التعبير عنه من أفراح وأتراح، وهو يعبّر عن حالتهم الوجدانية العميقة لولا استسهال الكثيرين في الآونة الأخيرة لكتابة الشعر الحديث أو شعر التفعيلة، فجاءت بعض الموضوعات ساذجة وسطحية، ومجرد رصف كلمات، لكن هذا لا ينفي أنه تبقى للشعر الجميل بصوره المدهشة الريادة وكثيرة هي القصائد التي اشتهرت عندما قام الملحنون بتلحينها وإطلاقها ضمن أغانٍ لاقت رواجاً وشهرة مثل قصائد نزار قباني وغيره.
* أحمد حسيب أسعد، شاعر: الرواية هي الغالبة في الساحة، وهي المطلوبة أكثر من قبل المتلقي وهذا واضح جداً.
هناك أسباب كثيرة لتراجع الشعر، أهمها أو أبرزها تدني مستوى الشعر، فما أكثر الشعراء وما أقلّ الشعر اليوم، الشعر يجب أن يكون مثقفاً بأن يكون غنياً بالصور والأفكار وبراعة التصوير بفرادة الاستخدامات اللغوية وتمكُّن الشاعر منها.
ويفتقر الشعر اليوم إلى كل ذلك، أيضاً يجب على الشعر أن يعالج الأمور الاجتماعية للناس، على الشاعر أن ينزل إلى مستوى الشارع بعيداً عن برجه العاجي لكي يعالج هموم الناس، الشعر يجب أن يكون لأوجاع الناس وآلامهم، لذلك هو بعيد عنهم اليوم، وأعطي مثالاً عندما يلامس أوجاع الناس فإن للشعر جمهوره الكبير آنذاك كأدب الشهادة الذي ازدهر خلال الأزمة التي مررنا بها، وصار الأحبّ إلى قلب الناس وأبدع كثير من الشعراء به لدرجة أغنى معه أدب الشهادة المكتبة الفكرية العربية.
تجربتي مع هذا الأدب نجحت لأنها لامست وجدان الناس وأهل الشهيد كتبت عن (7343) شهيداً، 7343 مقطعاً، عندما يلقى شعر الشهداء يلقى استحساناً وإعجاباً في المجالس، لماذا؟ لأنه لامس هموم الناس والوطن، أولادي يقرؤون روايات ولا يقرؤون شعراً ووالدهم شاعر، هذا واقع يجب أن نقرّ أن الرواية هي التي تتفوق على كل الأجناس الأدبية، أيضاً لمواقع التواصل والشاشة سرقت الناس عن قراءة الشعر وكل الأجناس من رواية وقصة و… إلخ في هذا الزمن المثقفون الحقيقيون قلائل، ليس التركيز لا على قراءة الرواية أو الشعر أو حتى الجريدة ومقالاتها، التركيز هو على لقمة العيش.
* محمود إسماعيل، شاعر: أعتقد أن زمن الشعر لم ينته، لكنّ الذي انتهي هو زمن الشعراء الكبار مما أدى إلى تراجع في اندفاعة الشعر وتفرده كسّيد للأجناس الأدبية وتقدّم الرواية فرض نفسه بقوة حيث أخذت من الشعر بعض توهّجه لأسباب متعددة منها: ما يتعلق بالشعر نفسه، فكثير من الشعر المهم ذو بنية مركّبة يستند إلى موهبة ترتكز بدورها على ثقافة متنوعة ونوعية ثقافة متفرّدة، وبالتالي يحتاج محبّو الشعر بدورهم إلى مخزون ثقافي واسع ومتمكن وعميق ومتنوع، بينما لا يرى الكثير من جمهور الرواية فيها أكثر من قصّة وحكاية تعتمد على التشويق والإثارة كما لو أنها فيلم سينمائي يرسمون في خيالهم صوراً لأبطال رواياتهم ويتعاطفون مع تلك الشخصيات ويتقمّصون أبطالها أحياناً.
للأسف إنّ الرواية، عند البعض، أخذت شكلاً شعبوياً والحقيقة غير ذلك، أما الشعر فهو لغة عالية المستوى تنسج ثوب الحلم، وتعد بنبوءة يتوّجها الكمال، والشعر بحاجة إلى متلقٍ أو قارئ لا يقلّ ثقافة وحساسية عن صاحب القصيدة في زمن تشكو العربية أبنائها الذين لا يقرؤون، وفي حالات كثيرة لا يميز البعض بين الجيّد والرديء لأسباب ثقافية واجتماعية واقتصادية وقيّمية متداخلة مع بعضها البعض، لكن لا قلق على الشعر، حتى ولو كبا قليلاً، فالشعر شمس لا تغيب إلا لتعود أكثر وهجاً ودفئاً.
مهى الشريقي