الدرامــا مــــن الداخل..

العـــــدد 9507

الثلاثـــــاء 14 كانون الثاني 2020

 

لعلّي لا أغضب كتاب الدراما ولا العاملين بها، إذ قلت: إني أنظر إلى هذه الدراما هذه الأيام نظرة فيها غير قليل من الشك والارتياب، وذلك على الرغم مما أعلمه من أن فن الدراما في سورية قد انتزع في السنوات العشرة الأخيرة لنفسه مكان الصدارة بين الفنون جميعاً.

وبالرغم من أن فن الدراما استهوى ولا يزال يستهوي غير فئة من المتابعين والمتلقين والكتاب والممثلين فيتخذونه أسلوباً يعبرون من خلاله عن عواطفهم وأفكارهم وفلسفاتهم ويصورون الحياة من حولهم تصويراً حياً نابضاً ويكشفون عن الكثير من خفايا النفس الإنسانية..
وعلى الرغم أيضاً من أنني تابعت ولا زلت أتابع أكثر من عمل درامي، وكم حاولت تجنب متابعة مسلسل مما أعنيه ثم أتابعه على مضض ثم لا ألبث أن أستغرق فيه، ينسيني موقفي الأول منه بل ويذهلني في طروحاته على مستويات مختلفة من الشكلانية والزخرفة وإيقاعات أحداثه الدرامية الدامية.
وليس مصدر الشك والارتباك هو الانتشار السريع لعدد من المسلسلات المجزأة وتجزيء المجزأ منها بشكل استنساخي يثير العديد من التساؤلات ومن ثم التصفيق العشوائي لمثل هكذا أعمال، ناهيك عن الدلالات المعلنة وغير المعلنة في سير خط أحداثها، فتلك قضية يمكن أن توضع موضع المناقشة ثم الاحتكام إلى فكرة تطور الدراما السورية من خلال القفز للوراء عشرات القفزات، هذا وإن مصدر الشك والارتياب عندي هو أن هذا النوع من الدراما قد اعتمد في طروحاته نبش دهاليز وسراديب الماضي لتلميعه وتقديمه بألف لون ولون من ألوان الحياة مجتمعة، ذلك مع الحفاظ على عنصر التشويق كما في حكايا الجدات أيام زمان، وربما أجزت لنفسي هنا أن أقول: عنصر التلاعب على حبل العواطف والسرد الحكائي وقوة الحبكة وتقنيات القطع والتوصيل الإخراجي وتقديم العمل لنا وكأننا نجلس مندهشين مسلوبي العقول أمام الجدّة العجوز لنسمع بقية الحكاية، وأظن كتاب مثل هذه الأعمال الدرامية يتفهمون عن وعي ودون وعي تحديد شخصياتهم المركبة والمزركشة بكثير من (العنتريات والعكدنة) وصولاً إلى الزعامة للحارات المبالغة فيها والمفتعلة أو بالأصح المفترضة باعتمادهم على أن الجمهور المتلقي يسترخي بعقله وتفكيره وهو يتابع هكذا أعمال ومن ثم السيطرة على عقله وخياله، ومن ثم العودة به إلى عصر الحارات والعنتريات بطريقة إخراجية عالية المستوى بحيث يتم قبولها والإيمان بها، وتبنيها حواراً أو أحداثاً..
ولست أبرئ كتّاب مثل هكذا أعمال من شيء يشبه هذا وإلا كيف نفسر تلاعبهم بعواطف المشاهدين وذلك حين يصلون بهم إلى ذروة يخيّل بها أن الأمر بلغ نقطة الحسم، وإذ بالكاتب يخلق عالماً وهمياً يمتلئ بالأحداث والشخصيات ويقيم بينها الكثير من التداخلات والتشابك بحيث يصعب على المشاهد الإمساك بالإيقاع الدرامي للعمل..
خيوط تجتمع وتفترق في وبراعة بحيث يقتنع المشاهد بأن ما يراه قد يمكن حدوثه، ناسياً منطق الدراما وأسلوب المبالغة بها، فالكتاب يختارون قدراً من التلفيق والتدوير يتجاوز منهجية منطق الحياة العادية إلى ما يشبه الخيال أو المألوف والعادي ويقدمه المخرج بتقنية عالية إخراجاً يكاد ينفي عن العمل ما هو شاذ وغير مألوف ويوهم المشاهد بأن ما يراه يسير طبيعياً وهذه حياتنا، ولست هنا بصدد ذكر أسماء بعض المسلسلات التي تحاكي هذا الكلام مما سبق، فمعظم المسلسلات الشامية تدور في دائرة ما سبق، والسؤال: كيف نحافظ على درامانا من الترهل والتشوّه والهبوط، بل كيف يمكن أن نقرأ تاريخنا درامياً؟
هل في تقديم التاريخ ملوناً براقاً بعيداً عن المصداقية والقناعة ونحن ندرك أن الحديث عن التاريخ والبيئة درامياً قد يكون عالماً مليئاً بالمحاذير والمخرجين يدركون ذلك؟
لا بد من القول إن المجتمع مجتمعنا، والتاريخ تاريخنا إلا أن المخرج يعمد في أحيان كثيرة إلى خلق زمان ومكان يائسين وشخصيات منكوبة بنكبة تلك الفترة الزمنية كلّ حسب دوره، وبالكثير من الرمزية والجهد والنوايا الطيبة ومحاولة يائسة للالتفاف على الواقع المجتمعي والتاريخي، فيكون العمل بأكمله دراما في دراما، وليس واقعاً وبالتالي هذا سبب ولو من بعيد بثبات الرؤيا وفشل الإمساك بخيط العمل كافة، ربما هي هذه الدراما السائدة هذه الأيام، والتي تكون في النهاية شكلية مسلية في مضمونها بعيدة عن واقع الناس والتاريخ..
وفي حال انغلاق العمل عن الفهم لا لسبب غموضه ولا لسبب تعدد الجهات التي يمشيها المخرج في وقت واحد، هل نقول: إن العمل نتيجة ما سبق ونتيجة ضياع الخط الدرامي وبطء إيقاعاته الممطوطة أفقياً أو لخلل ما في النص الأصلي؟
هل تقول: إن العمل الذي قدم إلى جمهور متعطّل فكرياً ظنه المخرج ومن معه جمهوراً همّه ضياع الوقت والتسلية فقط؟

غازي زربا

تصفح المزيد..
آخر الأخبار