أشــــــعار عـــالية التوتــــر..

العدد: 9295

19-2-2019

 

قراءة في ديوان (القمر على طاولة القمار) للشاعر قصي ميهوب
الشعر كائن متجدد، ووسيلة لمخاطبة الإنسانية، وهو من القيم الجمالية الكامنة في اللغة، مخلوق بهي يواثب الأذن بمبتكراته ورنينه، فيطربها حيناً، ويذهلها أحياناً، وكل يوم يطالعنا بالجديد، إنه مرتبط بحركة الناس والحياة لكنها متغيرة متبدلة لا تستقر على حال، وهو الطاقة الإلهامية المخبوءة في وعي الإنسان كما الثورة، وقد خرجت العاطفة الحبيسة من القمقم.
الشعراء ارتادوا السماء قبل صعود رواد الفضاء إليها، والشاعر يحلق في الأعالي بحثاً عن صورة يتصيدها عندما يرمح خياله المشبوب بنار الشوق أو الألم الموشّى بالحيرة والقلق كفرس جموح، أو كنهر يجيد الجريان والسقي ومصادقة الرياض القصيّة من خلال النافذة التي وهبه الله إياها.
قصي ميهوب شاعر له حضوره الدائم في المشهد الشعري السوري المعاصر، صاحب قريحة لا تكل ولا تمل، يستنفر حواسه ويفتح عدسته وباصرته وبصيرته ليسوس الكلمات في سبيل إراداته الشعرية لينحت لنا شعراً حالماً بالحب، خافقاً بالحياة، نابضاً بالوطن، شاعر يبهر أعيننا بألق لا يخفت ويتسوّل ضوءاً من أماكن عصيّة المنال ومن سماء شحيحة الزرقة، لا يلجأ إلى الكلمات المهجورة أو المعاني المواربة والصور البيانية المعقدة، بل ينسج قصائده من صميم الواقع السوري والعربي بعجرهم وظلامهم وزقومهم، في شعره نبوءات وتوقعات حدثت وكأنه أشبه بعراف يعلم ماذا سيحدث، يسمي الأشياء بمسمياتها بلسانه الفالت من عقاله بدون لفٍّ ولا دوران.
(القمر على طاولة القمار) هو الديوان السابع عشر للشاعر الصادر عن دار بعل في 111 صفحة، أشعار تقرأ الواقع وتنغمس في تفاصيله، وتمتلك الوعي والثقافة وتستشرف آفاق المستقبل في تصوير مبهر لدقائق الحياة وما يدور في لفائف الأدمغة وتحت الجلود.
الجمال كنز بشري لكنه ليس مستقلاً بذاتهن بل يرتبط بالعين الرائية وبرهافة النفس وعذوبة الأحلام، والحب زلزال يدوّي ويرجُّ في جسد المحب، ضاحك بفرحه، مقهور بأحزانه، متألم بمواجعه، ويمر بحالات شعورية مختلفة يحتدُّ مزاجه، ويتعكر صفوه حيناً، وتنتفخ عروقه ويحمر وجهه ويغلي ويفور كالمسعور تنحفر الأنثى على ذاكرته نقوشاً لا تُمحى رغم عاديات الزمن من حَتٍّ وتعرية وتقلب درجات حرارة ورياح عاتية هوجاء.
العشقُ بالقلب اختشى..
والقلبُ بالعشق احتشى..
من زهرة، ولزهرة
أخرى نشا، وتنشنشا. ص44
حياة الإنسان لا تستقيم دون الحب ولا معنى لها بدونه، وهو الوسيلة الأفضل للتوازن مع الذات وما حولها، فهو يوقظ البهجة والسعادة، ويهدي الروح قوة التجدد ويستنهض الروح الإبداعية التي تعشق الجمال والعيون والنفوس الجميلة… ألم يكن الشاعر البريطاني اللورد بايرون يتخذ من ساق معشوقته الإيطالية فرنيني مقياساً وحيداً للطول والاستدارة والالتفاف والارتفاع:
وسألت عنِّي..
كنتُ يا ما كنتُ..
أقطفُ الآلامَ من حزنِ السهر..
وألملم النورَ الهطولَ على الأمل..
فكأنني بالأمس أبحث من ازل..
عن خمرة شهلاء من عنب القمر..
يا شوقُ هَدهد مهجتي
الوقت . من أنثى انهمر. ص61
الفكر التكفيري فكر متخلف يهدف لفرض النموذج البدوي الصحراوي البائد وتسهيل وصوله إلى حكم الدول العربية والإسلامية عبر إطفاء شعلة المعرفة والنور واختراق النسيج الاجتماعي وتحويل الدين من محبة وإخاء إلى مطية تكفير وقتل وذبح لهدم مقاصد الشريعة الإسلامية من أساسها وتعميم النهج المتطرف ممارسة وسلوكاً، وباسم التكفير يُنقِّبون أنفسهم قضاة ربانيون على البلاد والعباد وتحويلهم إلى أتباع ومريدين لأفكارهم والتفاني والموت في سبيلها:
وفاسدونَ بما فَسَد..
في السبتِ، أو يوم الأحد..
جمعوا خرافاتِ الدُّنا..
في يوم جمعةِ من سَجَد..
كلٌّ يقولُ دينهُ..
إِمَّا هو.. أو لات أحد. ص75
الجرح العربي بليغ، وعندما يصبح الإنسان بلا وطن يصبح بلا هوية ولا مستقبل، الشاعر يتألم لحالة التشظي والتشتت العربي الذي صار سمة أقتناه يطرح همومه عبر المواجع المنتنة الجراح والدماء، أشعار وكأنها صدى ختافاً لآماله، وترجماناً عُيَّياً لأحلامه، وأنيناً شجياً لآلامه:
ترى العربيَّ في أرضِ الخليج..
ويحرسُ متعةّ أمةِ (أستنير) في أورشليم..
ذاك الغبيُّ يظن لأمهِ عشقَ الوطن..
فيخافُ ميعادَ الوطن..
ويغرزُ المسمارَ في عينِ الوطن..
ويُعملُ السكينَ في ذبح الوطن..
كي لا يقومَ الوطن. ص101
الوطن هو النبض في القلب، والدم في الشريان، سورية ذاقت أياماً رهيبة فاجعة بفعل الإرهاب، وحب الوطن هو القدرة العظيمة التي استنهضت السوريين للدفاع عنه ليبقى ملاذاً آمناً للحب والحياة وبناء المستقبل، والحوار بين أبناء الوطن للتواصل وتبادل الأفكار وسماع رأي الطرف الآخر، ولا مكان للسماسرة الذين يبسطون بضاعتهم في بازارات العمالة والخيانة، وللحوار والدستور طريق واحد يمر من مصلحة الوطن وآلام الشعب وآماله وكشف وتجنيب الأخطار المحدقة وإنتاج دستور وطني قائم على الثوابت والمواطنة والانتماء:
أملُ المواطنِ..
مثل آمالِ الزهورِ..
عند بيّاعَ العطورِ..
يسعى بلقمةِ عيشهِ..
والعمرُ يسرعُ في العبورِ..
بين اللصوصِ كما ترى..
عينُ الغرابِ بحصَّةِ الدُّوري..
وعدَتهُ آلهةُ القصورِ..
بحديقةٍ بينَ القبورِ.. ص84.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار