زورقي لا تغرقــه القناصــة.. زلال ينـــابيع يعشــقه المــزن

العدد: 9293

الأحد-17-2-2019

 

الشعر لا يعلو على مقامه مقام، يرسم الزمن بالضياء، يعابث الروح ويرسم ابتسامة الفرح على الشفاه، وهو حسب تعريف المرحوم نزار قباني (وحش خرافي، لم يره الناس، لكنهم رأوا آثار أقدامه على الأرض، وبصمات أصابعه على الورق).
شاعر قصائده شاهدة على أصالته وعمق انتمائه الوطني، يكتب بروح المسافر فوق السحاب، يتدفق زلال ينابيع بانسياب لطيف يعشقها المزن وتروي القلب والجوى، وهو يرى أدق التفاصيل على الأرض، ويتقن أدق التفاصيل الخاصة اللازمة لكتابة الصورة الشعرية، يكتب الشعر وكأنه يرسم لوحة تشكيلية بالألوان، يكتب لغة هادئة متيقّظة مغموسة بماء الرؤيا بكلمات منتقاة بعناية فائقة وكأنها ضربات فرشاة تخاطب وتحاور مخيلة القارئ وذوقه في جدال داخلي بين ذات حساسة تتثاءب وتتماهى بين هذيان المخيلة، وطهارة الفكرة، بين الصفة والموصوف، والدال والمدلول، بعيداً عن التكرار البليد والصور المتناسخة والتهويمات في المعنى.

أحمد قادرة، شاعر سوري مواليد 1954، إجازة في اللغة العربية صدرت له مجموعتان شعريتان، وهذه هي الثالثة له، والثانية التي تصدر في تونس بعد (أنقري تجاعيد أحلامي) التي كانت قد صدرت عن دار (نقوش عربية).
(زورقي لا تغرقه القناصة) إصدار دار (ديار) للنشر والتوزيع في تونس، تصميم الغلاف للفنان التشكيلي رامي شعبو، وقد قامت الناقدة التونسية الدكتورة سعدية بن سالم أستاذة النقد الحديث بتقديم دراسة عن الكتاب في ملحق (منارات الثقافة) الشهري الصادر عن صحيفة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل المشهور بمواقفه الوطنية والقومية بتاريخ 13/12/2018.
(زورقي لا تغرقه القناصة)، نصوص قصيرة وأحياناً لا تجاوز عدة كلمات أو أسطر غنية بالشفافية والحيوية اللغوية، وصاخبة في دهشتها ورنّة وقعها واستيلائها على الحواس في استنطاق خفي اللُّغة بأسلوب حداثي انقلابي على ما هو سائد ونمطي وتقليدي يغازل الحداثة ولا يتخلى عن الإيقاع.
وتتضمن المجموعة الكثير من القصائد المتنوعة التي تحمل المعاني الوطنية والإنسانية والوجدانية والعاطفية، بعواطف ليست عادية أو مجرد ملمح عابر، بل من مكرسات حياته ويوميات دأبه وسعيه لتحقيق أحلامه.
في قصيدة (خرزة ومفاتيح) نكهة الكبرياء ونبرة التحدي، قراءة جمالية للوطن والمحبة والعلاقات الإنسانية الراقية تتجاوز الوطنيات البسيطة إلى ما هو أكثر عمقاً ودلالة، شاعر مُعنّى بعشق وطنه حتى الصميم، ومن عبق ترابه ينفث نفحات عطر يغلف بها كلماته التي تلامس الوجدان، يقبض على الكلمة الخاطفة كما يقبض رجال الحق على اللحظات العاصفة بشجاعتهم وإرادتهم وقناعتهم وما يسطرون من عظيم الشرف وكبائر البطولات:
لا تسيِّح سورية خمائلها،
فللفراشات أسرَّة فيها،
وللقبُّرات غرف نوم وأحلام. ص 57
صارت الشهادة اليوم عنوان كل منزل سوري على امتداد هذه الأرض التي اغتسلت بالدم وتطهرت بالنار وتكللت بالغار، وتضحية السوريين فعل وطني يحاكي سموّ الوجود ورسالة الخلود الأبدي، يرسمون في وجدانهم أبهى الصور للشهداء الذين قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الوطن، فهم الحياة والأمل والمستقبل المشرق:
يشدني صوت منجلكِ،
وأنتِ تحصدين سنابلَ الضوء،
يدهشني أن تحيكي،
من خيوط الدم فستان عرسكِ. ص100
الحرب المجنونة المفروضة على سورية تهدف فيما تهدف إلى الإطالة بالأثر والمكان والناس والأزمنة المتكوّمة على بعضها منذ آلاف السنين، الشاعر تنوشه الهجرة كالرماح في الخاصرة الرخوة، وصارت بلواه من هَمٍّ يعانيه، وجوى ألم في النفس يخفيه، هجرة الأحبة كحبّة السفرجل تترك الغصة في الحلق، يعزف لحفيده الصغير بقيثارة الحب والطهر والبراءة والأمل كي لا يهاجر ويصبح كالفقاعة الطافية على مدار الوهم بطعم السفرجل:
ليس جواز السفر،
أن تكون مسكوناً بالقنابل كرأسي،
أن تكون ممزقاً بجوع الجائعين،
كروحي،
أن تكون محاصراً بدبابيس الرعب
كقلبي
ومحولاً على جدار النار
كقامتي
فلا تجاهر. ص 54
الأنثى والحب وجهان لعملة واحدة، والعشق فعل إنساني كبير يميزنا ويجعلنا بشراً، تتربع الأنثى على عرش خطابه الشعري دامجاً بينها وبين الحياة والوطن والكون، الشاعر يحمل حباً أزلياً في حنايا قلبه، وتتأجج قصص الحب والجسد والشهوات الخجولة المتراكمة والتنهيدات وزفير الشوق وقيثارة الرمح بفوضى لذيذة بكيمياء شعري وحي عجيب لتكتمل أبجدية الحب:
عندما يرتقي عطركَ
سلالم أنفي،
وتسرقُ بشفتيكَ
جلنار شفتيَّ
تخلع ملكةُ خليتي
فستان العسل
وترتديكَ. ص22
أخيراً، يطوف خيال الشاعر محلّقاً بشغف النسور التي تحلّق وحيدة في الأعالي يبحث عن فضاءات ورؤيا جديدة في الشعر، يستبيح الكلمات ويجيد استخدام أدواته في توصيف ما يمر به الوطن من جراح وآلام ومنعكساتها ومرتجعاتها على الإنسان والتراب والماء والهواء

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار