رفاق درب وأصدقــــاء في ذكرى الوداع الأخــــير

العدد: 9458

الأربعاء :30-10-2019

وكان على شفاه الصبح وعداً وقد استشهد، ونبتت على حبيبات دمائه التي تغلغلت في التراب المقدس رياحين وأقحوان، ونبض حياة جديدة تسأل من بابا وأين هو؟ لقد انتظرهم بفارغ الصبر والحلم يستطير به وقد ابتعد وقبّل وجه الحياة في ارتحال.

في ذكرى استشهاد البطل باسل أسعد وجميع رفاقه في لمّة بدعوة كريمة من أخته هيام في رويسة قسمين، تتوجه الأنظار إلى الباب بدخول ثلاث صغيرات مع والدتهن وهن يمسكن بها من الأطراف ولا يتجاوز العمر بهن ثلاث سنوات، توءم الشهيد ربيع سعد الدين الذي صان العهد وصدق الوعد، ونال الشهادة التي شرع لها القلب المسكون بصور صغيراته وقد رسمهن في العينين وأغمض بسلام، تقول السيدة ريم أحمد زوجة الشهيد ربيع عز الدين توفي في الشهر السادس من حملي وقد طال به الانتظار وكان يسألني أن ألد في الشهر السابع فهو مشتاق، رحل والفتيات اليوم بدأن بالسؤال: من بابا؟ وتنادي صغيراتي جدهم بـ (بابا) عندما أناديه بابا، آه يا ربيع كما اشتاقت لك أميراتك كما كنت تناديهم في جوفي، ألم تكن تريد اللعب معهن ومرافقتهن على طرقات الحياة؟
جميعهم شباب جرحى ومصابو حرب وقد أشرقت أساريرهم سعادة وابتسام على محياهم المضرج بالبطولة والرجولة، وكلهم حلم وحقيقة بأوجاع لكن (خلي براسك يا دني منك قدي) كما قد ترفعوا عن السؤال وطرق أبواب المسؤولين.

البطل الجريح طارق درويش، الذي عاد من الموت المحقق، كان قد أصيب في جسر الشغور بمعسكر القرميد منذ أكثر من ثلاث سنوات، في مهمة ورفاقه لفتح الطريق الواصل من الغاب اشتبرق إلى شطحة، لكن قاذفاً أصابه وفتح بطنه وقضم كتفه وأصاب الرأس إصابة بليغة فقد منها العين اليمنى، قال في حديثه: عند إسعافي ورفاقي إلى المشفى الميداني في جورين، ظنوا أني قد استشهدت، ووضعوني في سيارة الإسعاف ليرسلوا جثماني إلى براد المشفى العسكري، وكانوا أن أبلغوا أهلي بالأمر، ولكن خالي وهو ضابط في الجيش العربي السوري أراد التعرف على الجثمان، وعندما اقترب مني ليودعني، جس نبض شريان عنقي فأحس بسخونة جسدي وأخبر الطبيب، عندها أسرع الجميع لنجدتي ووضعي تحت مشرط العمليات لساعات وأيام، بل أشهر وسنوات، وكان أن تعب القلب وهم أبي للوداع والرحيل عن هذه الدنيا بعد شهرين، اليوم أنا أعمل عند خالي بالأرض وتربية الأبقار، والحمد لله مستورة وكلكم نظر.
ويلفت انتباهي البطل الجريح فريد عيسى وقد حدق بي، وهو الذي فقد يده اليسرى وساقيه، ولم تثنه إصابته عن فرح الحياة وقد امتلأ بها حباً وجمالاً، لأسأله: ماذا اختلف عليك بعد أربع سنوات مرت على لقائنا بك عند الأيام الأولى من إصابتك؟ فرد وقال: ابتعد عنا الأصدقاء ولم يعد يزورنا بينهم غير القليل، لقد جف ماؤهم وتصدعت جدران تواصلهم.
وكذلك الجريح البطل عامر الذي بات حبيس الجدران منذ خمس سنوات، وهو يعاني من الشلل التام بنسبة 100% ليكون الشهيد الحي، لكنه اليوم خرج بعد أن ملّ منه الفراش، واليوم كانت فرحته كبيرة لينشدهم بلقاء آخر قريب كان قد أوصى عليه رفيقه البطل ليقف بجانب رفاقه الجرحى ولو كان به شلل.
ريمون نظام: إصابتي بالخاصرة أدت لمشكلة في البطن وخزل في القدم، متزوج ولدي ثلاثة أولاد، ليس لدي وظيفة فكان أن بعت داري وسكنت مع أهلي لأصرف ماله في حاجات الأولاد، منذ أكثر من سنة لم أنل أي راتب، وليس لدي رأسمال لأبدأ بمشروع صغير مثل دكان، غير أني أملك أرضاً زراعية أحاول أن أسعى فيها جاهداً مجاهداً لأجل المعيشة وحاجات الأولاد.
ورفيقه بجانبه وهيب فاضل من صقور الصحراء أشار إلى 900 شهيد 234 جريحاً بإصابات دائمة من الصقور، وليس لهم أي راتب أو تعويض ولا دخل وهم من حرر الريف الشمالي، ويشكو والشكوى لغير الله مذلة كما يقول: (بيتي على العظم) احترق بماس كهربائي بعد فصل ووصل للتقنين، ليس فيه أي شيء لا براد ولا تلفزيون ولا غيره من الأجهزة الكهربائية أو الأدوات وأحتاج لعملية جراحية تكلفني 450 ألف ليرة، لدي ستة أولاد ولدي (حاكورة) أزرعها وليس بيدي حيلة غيرها، طرقت أبواب المسؤولين فلم يرد علي أحداً.
جميع من كان في هذه الارتقائية من الجرحى شكر الآنسة هيام وعائلتها على حسن الضيافة والاستقبال، فكان فيه خير مقام، ليس كمثله من مسؤول، وتمنوا أن يكون لجمعهم هذا لقاء قريب، حيث وجدوا فيه الصحبة الطيبة والرفقة الرضية، فلطالما أرادوه وليس المال الذي يظن بعضهم أنه مطلبهم ولو كان بهم حاجة إليه.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار