صفحات من الذاكرة الطعــام ماضيــاً وحاضــراً مــا الــذي تغــير.. اختـــلاف مــــذاق أم هـــو اختـــلاف أحاســــيس
العدد: 9453
الأربعاء:23-10-2019
وللمأكولات ذاكرة أيضاً، تعيدنا إن أردنا أم لا حيث الطفولة والأجداد وتعود بنا إلى الفرح والشقاء، فالبعض ما زال يعيش في الريف ولكنه فقد التواصل معه بسبب وفاة الأهل أو الانتقال من الريف إلى المدينة.
وهذه الأكلات الريفية قد تصبح بوابة للعودة إلى الماضي لو كانت هذه العودة مرافقة للحظات حزينة ودامعة في تاريخ كل شخص.
لذلك أحببنا أن يكون الطعام بالأساليب القديمة والأدوات التي كانت متوفرة آنذاك عنواناً للحديث عن الماضي الذي يعتبره البعض الآن تراثاً، والتقينا عدة أشخاص في ريف اللاذقية وجبلة وبانياس، تقرأ في وجوههم صفحات خطّت حروفها نهارات الشقاء وليالي العذاب، فلا يكاد ينفصل ليلهم عن نهارهم ركضاً وراء لقمة مغمسة بالعرق والدم أحياناً، نزفت أقدامهم بدروب وعرة، رغم لين العيش هذه الأيام ورغم ما وصلوا إليه ولو متأخرين، تعب وشقاء مع بساطة عيش وحب وألفة يحكون عن عملهم وتعبهم بأسى وعن طعامهم آنذاك بحرقة، ومع ذلك نلمس الحنين والمقارنة إذ إنه كان لذيذا معجوناً بالحب والبساطة بعيداً عن التعقيد والإضافات.
في رحلة بحث عند هؤلاء من كبار السن ومن بيئات مختلفة بعيدة نائية عاشت الفقر والعدم على أشده ومتوسطة وفئة عاشت المدنية الصرفة.
* العم أبو محمود في قرية بسوطر الذي كانت قد ضيفته إحدى السيدات طبقاً من المعكرونة، فجأة وجدناه دامع العينين متذكراً والدته الراحلة وفي أثناء حديثه عن الحصاد قائلاً: كانت أمي رحمها الله تعد لنا الفريكة الخضراء الطازجة ممزوجة مع البيض بالزبدة البلدية، نتخلق حولها أنا وإخوتي ومن معي من أقرباء فننسى كل تعب ناتج عن العمل بالأرض، أيضاً كانت أمي تصنع لنا أكلة المعكرونة في دست كبير على نار الحطب، مغمسة برب البندورة المعد من قبل أمي، لم نكن نستخدم مواد معلبة ومحفوظة.
ويتابع العم أبو محمود: تطورت الأدوات وتعددت الخيارات لكن مع ذلك الطعام في تلك الأيام كان أطيب وألذ وليس فقط السبب لكون كل واحد منا يجد أكل أمه أطيب، بل يتعلق الأمر بالرائحة والأسلوب والنكهة.
* أما السيدة فداء صالح حين سألناها عن طفولتها وحياتها في القطيلبية فقالت: كنا نتعب بالعمل في الأرض ولكن كل هذا التعب يتبخر بسبب الأكل التي كانت أمي رحمها الله تعده كالبيض المشوي وفطائر السكر المدهونة بالزبدة توضع على جدران التنور.
* العم إبراهيم سلامة، الدالية عمره حوالي ٩٩ عاماً قال: قضيت معظم طفولتي وشبابي إلى الخمسين تقريباً وأنا أذهب إلى حصيدة العلا وكما هو معلوم الحصاد في مناطق حماة كما أن حصد القمح على حدود العراق، ولم يتغير عليه شيء سوى لقمة الطعام فصحيح هذه الأيام الأطعمة متنوعة وكثيرة ولكنها في أيامنا كانت أطيب وألذ لأننا كنّا نعمل من الصباح للمساء ونتعب ونجوع فنجد الطعام لذيذاً وكان إما خبزاً مع ماء أو أحد مشتقات الحليب كاللبن أو الشنكليش، أو مقلي البرغل الصباحي هو ألذ طعام لنا وأكثر أكلة متوفرة، ومقدور عليها، إضافة لأكلات التسليق من البرية وهذه قوامها أعشاب من البرية تسلق وتعصر وتُقلى مع البصل وزيت الزيتون، كذلك أكلات السلق من الترموسة والأقراص والكبيبات منها ما يزال إلى أيامنا هذه.
* الجدة زريقة، أم علي من الدالية وعمرها تجاوز المئة عام، تحدثت لنا عن معاناة العيش وأكثر ما تردد في حديثها كرابيج الذرا البيضاء وعندما سألناها عنها، قالت: هذه عبارة عن ذرة بيضاء مطحونة تعجن بالماء ويضاف لها الملح فقط، وتُخبز على الجمر، وأكثر أيامنا نقضيها على كربوج ذرة واحد من الصباح للمساء، ورغم ذلك كان طيباً ولذيذاً ويسد حاجة الجسم.
وأضافت: مرت سنون لم نعرف فيها سوى إلا الشعير، كنا نطحنه ونخبزه، صحيح أن فائدته كبيرة لكنه غير لذيذ نأكله على مضض لعدم وجود البديل، وهناك مثل شعبي حول ذلك، إذا قالوا عن شخص أو شيء مفيد لكن حقه ضائع وغير معترف فيه مثل كمثل خبز الشعير مأكول ومزموم.
* السيد سامر وهو مهندس معماري متقاعد، مقيم في بيت عانا قال: نشأت في شرقي حمص وكان وضع أهلي سيئاً عشنا أياماً صعبة أنا وإخوتي من جهة الدراسة والعمل لتأمين لقمة العيش لمساعدة أمي وأنفسنا في ظل غياب الأب الذي فرضه موت والدي ونحن صغار، كانت أجمل لحظاتنا في الريف هي حين تعد أمي لنا الطعام على قلة مكوناته ولكنه بكل صدق أطيب من كل ما نتناوله الآن.
لم يكن على زمن أمي خلاطات وعصارات ولا حتى المال الكافي لشراء أدوات تسهل العمل في المطبخ كما الآن، أدواتها هي محبتها لنا و يدها ونفسها الطيب، كانت تعد لنا طبقاً يسمى (البروشكة) ويتكون من البرغل والسلق والكشك، أيضاً كانت تعد لنا مقلي البرغل بحمص وتكثر عليه الزيت في غياب اللحم، حيث كانت تقول (ما بيعوض عن اللحم غير الزفر، أي الزيت).
* السيد قحطان محمد يقول: عشت ونشأت لدى جدتي بسبب وفاة أمي رحمها الله باكراً في قرية لا تبعد كثيراً عن اللاذقية، ولكن بنفس الوقت كانت بعيدة جداً عنها بسبب النقص في أمور، كان أجمل أمر في تلك الفترة هو ما تعده جدتي من طعام التي كنت أناديها أمي، فكيف أنسى البرغل ببندورة، بدون مبالغة كانت تتناول منه حصة صغيرة وباقي المقلي يستقر في معدتي، أيضاً كانت تعد طبقاً لم أسمع عنه إلا لديها وهو البرغل والسلق أو الخبيزة مع الخبز وتناوله مع اللبن.
وتابع: كأني أرى الدست والمغرفة الكبيرة حين تقرر صنع كمية كبيرة من البرغل بحمص لتقدمها للضيوف او لترسل منها إلى الجيران، توفت جدتي وذهبت معها تلك النكهة فزوجتي تفضل طبخ الأكلات السريعة والغربية.
* الجدة خزنة أحمد تسعون عاماً: كانت طفولتنا مليئة بالفقر والتعب والجوع وكان طعامنا إلى فترة ليست بالقصيرة يقتصر على إعاشة الهلال الأحمر وكثير من الناس كانت منكوبة أي بدون قيود لدى النفوس وبالتالي كانت محرومة من الإعاشة، لذلك اقتصر طعامنا على القمح وما تجود به علينا الأرض من أعشاب وزراعة على نطاق ضيق، في مرحلة الشباب تغير الوضع قليلاً، أصبح لدينا مواشي، وصرنا نعبئ المونة من السمن البلدي والتين اليابس والقاورما التي كنا نصنعها من ذبيحة من مواشينا، نطبخها بالسمن العربي ونضيف لها الملح ونعبئها بجرار فخار كي تستمر إلى الشتاء ونضيفها على ما نطبخ، أو نقلي عليها البيض وغالباً ما نطبخها مع البصل ونأكلها بالخبز، وبصراحة لم تكن خياراتنا بالأكل منوعة كما الآن.
* السيدة فضة عيسى ثمانون عاماً: عايشت الريف البعيد في طفولتي والفقر والجوع والتعب، وكان أي طعام ومهما كان بسيطاً يرضينا ويسد جوعنا وليس كمثل هذا الجيل الذي يتأفف ويتغنج وبعد فترة زواجي وبحكم عمل أولادي بالمدينة، انتقلت للسكن معهم، بالحقيقة اختلف الوضع من حيث الأكل في التنوع وطريقة التحضير وإضافة المطيبات والتوابل، ولكن بقيت في أعماقنا لذة الأكل القروي والطعم الطيب للأكل القديم، ونحاول تحضيرها من وقت لآخر وأهمها متبلة الحنطة وأكلات السلق كالترموسة والكبيبات وأكلات الذرة البيضاء والصفراء لنتذكر الماضي القديم.
* السيد أبو المجد صاحب تنور قال: لا أنكر أن ضيق الحال هو سبب قراري بالعمل كخباز بالإضافة إلى وظيفتي ولكن السبب الأهم حنيني إلى فطائر أمي وأكلها اللذيذ، حيث كانت أمي تخبز بكل محبة، وكنا أنا وإخوتي قبيلة يوزع أبي المهام فيما بيننا، كان التعب كبيراً ولكن حين كنا نرجع ونشم رائحة الشوربة التي تعدها أمي من الأعشاب في أرضنا أو القمح مع الزبدة البلدية، كنا ننسى كل ما عانيناه في اليوم، رحم الله تلك الأيام ورحم أمي.
* السيدة عفاف في الطفولة البعيدة أتذكر كيف كانت نساء الحارة في بانياس يسهرن مع والدتي وطيلة الليل في فترة تحضير المؤونة للشتاء يقمن بصنع الشعيرية لأنه يومها لم تكن الشعيرية المعروفة حاليا موجودة لذلك كان على الناس أن يحضروها بأيديهم.
* السيدة أم محمد 85 سنة، تحدثت بكلمات تفيض بمشاعر الحزن المغلف بالحب حول أيام خوالٍ وليال وما أكثرها قضتها تتضور جوعاً وحرماناً، ورغم ذلك كانت أيامنا جميلة وفيها علاقات الحب والتعاون والتكافل كأن تمر المناسبات والأعياد فنوزع فيها السمن البلدي على من ليس لديه والعسل ومنتجات الحليب على أيامنا، لم يكن دارجاً أن يباع الحليب واللبن لأهل القرية ممن لديه بقرة أو صاحب النحل، لم يكن يبيع العسل بل كان إنتاجه يوزع على القرية في حالات وجود مرض القلاع عند الأطفال، ولم يقتصر التكافل على توزيع المنتجات بل بالمساعدة في الأعمال الصعبة كأن تجتمع القرية لمساعدة أحدهم في بناء بيته وتحديداً صب الباطون وتكسير الحجارة لتحويلها إلى بحص ورمل (الكسارة).
وبالنسبة لطعامنا كنا نعتمد كلياً على ما تنتجه الأرض وكثير من أنواع الطعام الحالي لم تكن مألوفة على أيامنا ومعروفة لدينا وعلى أيامنا كنت أحب أكلة تدعى السيالات وكنت أجيد صنعها ومشهورة بها وما أزال أطالب بها من قبل أولادي وأحفادي.
وهذه الأكلة قوامها طحين القمح والماء والملح فقط وتشبه كثيراً ما يعرف حالياً القطايف من حيث المكونات والتحضير فبعد أن نشكلها لتكون لزجة وتوضع على فرن الحطب وتكون النار قوية تحتها ومجرد نضجها ندهنها إما بالسمن العربي أو زيت الزيتون حسب الرغبة وأحياناً نرش السكر عليها وهذا عائد لرغبة الشخص.
* الخالة أم أحمد قالت: في الزمن الماضي كان لطعامنا نكهة خاصة لا نجدها اليوم وتوافقها الرأي أم إبراهيم فتقول: لم نعد نطهي الكثير من الأطعمة التي كنا ننتظر أن نأكلها بفارغ الصبر ربما تغير العادات وربما تغيرت الأذواق هو السبب، ثم أخذن يذكرن بعض الأطعمة فقالتا: كان هناك ما يسمى الفطير وهو عبارة عن خبز تنور يدهن بزيت الزيتون بعد خروجه من التنور فوراً ويجمع فوق بعضه البعض ليأكل لاحقاً وله طعم لا ينسى، أيضاً كان هناك ما يسمى القاورما وهي عبارة عن الدهن مع اللحمة يوضع على النار حتي يصبح لونه أشقر ثم يوضع في أوانٍ تحفظه لحين الحاجة إليه، كذلك كان هناك ما يسمى بالكبيبات وهي أكلة شتوية تتكون عجينتها من البرغل والطحين وتحشى بالسلق أو السبانخ وتطهى بمرق من الماء ولاتزال تطهي عند بعض العائلات حتي يومنا هذا، أيضاً يوجد ما يسمى الترموسة وهي عبارة عن فطيرة كبيرة بمساحة خبز التنور ثم تقطع، أما المخلوطة وهي عبارة عن عدة أنواع من الحبوب كالبرغل والعدس والحمص والبازلاء وهي تشبه الشوربة لكنها اليوم من الأطعمة التي انقرضت، أيضاً هناك ما يسمى الزلابيه والتي لا تزال حتى يومنا هذا من الأطعمة المحببة لدى الكثيرين وهي عباره عن عجين يقلى بالزيت بعد إضافة السمسم، أما الملفوف الأبيض مع البرغل والحنطة المطحونة مع الكوسا وأيضاً جريش الحنطة مع الكوسا كلها باتت من الزمن الماضي، وتابعتا الحديث: اليوم وعلى الرغم من طهي الهريسة أو ما يسمى بالقمحية إلا أن طريقة طهيها تختلف عن ما مضى حيث كان يتم خفق الحنطة بعد استوائها بالزبدة لتعطي قواماً سميكاً صحيح أنها لا زالت حتى يومنا هذا إلا أن خفق الهريسة مع الزبدة لم يعد موجوداً هي أطعمة على الرغم من بساطتها إلا أنها كانت تتميز بنكهة الحب وطعمة الشقاء كانت اطعمة تتميز ببساطتها.
سماح العلي- آمنة يوسف- رنا غانم