مليار ونصف المليار لإعادة إعمار الريف الشمالي باللاذقية.. إرضاء الناس غاية لا تدرك… كلمة حق يراد بها باطل
العـــــدد 9441
الإثنين 7 تشرين الأول 2019
فجر الأحد الأسود في 4/8/2013 لن يغادر ذاكرة من نجا من أبناء قرى الريف الشمالي باللاذقية، التي تعرضت لهجوم إرهابي عنيف عبر محاور عدة، أبشع مجزرة يندى لها جبين الإنسانية، ذبحوا الأطفال والنساء والشيوخ، وخطفوا العشرات، وهناك من لا يزال مفقوداً مجهول المصير.
غامت تلك الرؤية بأن القرية هي المكان الأكثر أماناً في العالم، و لفّها الضباب في عقول وقلوب الأهالي الذين كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية البسيطة الآمنة بهدوء.
أمام هول الفاجعة وعنصر المفاجأة في ذاك الفجر الذي لم تشرق شمسه إلاّ على عيون تبحث عن الأحبة والأقارب لمعرفة مصيرهم، ومحاولة النجاة لمن بقي على قيد الحياة، لتشهد دروب الوديان والحراج تعثر الخطوات بحثاً عن ملاذ آمن، بالنزوح إلى مدينة اللاذقية، إمّا إلى مراكز إيواء تم إحداثها من قبل الجهات المعنية، أو اللجوء إلى أقارب في قرى بعيدة أو قريبة.
تفاوت زمن اللجوء والنزوح، لم يطل عند بعض الأهالي، عادت لأرواحهم الحياة مع تحرير الجيش العربي السوري للقرى واستعادة الأمن والأمان لتبدأ رحلة العودة إلى قراهم وتفقّد منازلهم، رغم الآلام لفقد الأحبة والخراب والدمار، والحرائق التي التهمت منازل وبساتين تفاح وأشجار مثمرة، ومنازل خالية وخاوية.
إرادة الحياة أقوى، ولا حياة كريمة خارج بيوتهم في قرى جبلية هي موطنهم رغم كل الظروف والمآسي، عادوا فرادى بالتتابع، هناك من حمل معه ما تم توزيعه من إعانات (بطانيات، فرشات إسفنج، مواد غذائية أو صحية ..) في مراكز الإيواء، لينام على الحصير، ويغلق فتحات النوافذ أو الأبواب (بالبطانيات)، وهناك من باع عدة دونمات لترميم وإكساء منزله ليعود صالحاً للسكن، وهناك من ساعده الأقارب أو جهة ما لتدبير الأمور المعيشية الأساسية.
أشاد الأهالي بمكرمة السيد الرئيس بشار الأسد وتوجيهه بتقديم إعانات لأهالي قرى الريف الشمالي إن كانت مساعدات مادية أو عينية، وتتبع أوضاعهم مع عودة الأمن والأمان لتحقيق استقرارهم وعودة الحياة الطبيعية.
مشروع إعادة إعمار الريف الشمالي
كان هناك اهتمام حكومي واستجابة بإعادة تأهيل المناطق المحررة (المنازل- البنى التحتية- المراكز الخدمية والصحية والتعليمية) لإعادة المهجرين إلى منازلهم وعودة الحياة الطبيعية الآمنة تبلور الاهتمام بعقد بين مديرية الخدمات الفنية باللاذقية والإنشاءات العسكرية بقيمة (مليار و 264 مليون ليرة) لتأهيل وترميم (456) منزلاً في قرى (أوبين, أبو مكة, بلوطة, صليب بلوطة, الخنزورية, أنباتة, الحمبوشية, بارودا) ومدة التنفيذ (200) يوماً لتبدأ المباشرة في الشهر الأول من عام 2017 وانتهى المشروع في شهر شباط 2018, بعد ربع أعمال في 11/6/2017 بالبداية حضرت لجنة من الخدمات الفنية, ورافقها من اختارتهم من المجتمع المحلي لدراسة واقع المنازل لتقديم كشف تقديري لكل منزل, مع مجموع الأعمال الأخرى من تأهيل شبكات الطرق المخربة والصرف الصحي, مع إعادة تأهيل وصيانة مدرسة الحمبوشية وبلوطة, لتقديم العقد وتنفيذه، لتتولى الإنشاءات التنفيذ فيما الدراسة والإشراف للخدمات الفنية نتساءل: لماذا تم جمع القرى بمشروع واحد, هل لو كانت كل قرية بمشروع سينعكس إيجاباً من ناحية الإشراف لمتابعة أدق التفاصيل, مع أكثر من جهة منفذة للتنافس بتقديم الأفضل بجودة العمل؟
تمت الدراسة في الشهر (12) في 2016 في عزّ الشتاء في منطقة جبلية وخلال (10-15) يوماً من قبل فريق بزيارات ميدانية للمنازل لرصد الواقع وتسجيله وإعداد الكشوف التقديرية، لماذا تم اختيار الدراسة في كانون الثاني 2016 والسرعة دون مراعاة الظروف الجوية وإمكانية غياب نسبة كبيرة من الأهالي بسبب تعليم الأبناء وصعوبة المواصلات في هذه المنطقة بين المدينة والريف, علماً بأن الدراسة والجولات الميدانية على المنازل تتطلب تواجد الأهالي في المنازل للحوار مع اللجنة, وتقديم المواطن اقتراحه وطلبه أم أن اللجنة أو المهندس الذي قام بزيارة منازل هو أدرى بحاجة المنزل أو عمل وفق تخطيط مسبق للحاجات المطلوب تنفيذها؟
الحكومة التي انتظرت من نهاية 2013 إلى نهاية 2016 لإقرار عقد تأهيل وترميم المنازل في قرى الريف الشمالي دفعت لجنة الدراسة للعمل تحت ضغط الوقت والسرعة لتحضير الكشوف التقديرية! فيما العنوان العريض لمشروع إعادة التأهيل والترميم بالنسبة للمنازل (إعادة الوضع إلى ما كان عليه ليصبح المنزل جاهزاً للسكن, ماذا عن تصدع الجدران والسقف بالمنازل, وتجاهلها، هل عاد الوضع إلى ما كان عليه؟).
أعمال (كهرباء, صحية, دهان, بلاط , نوافذ, أبواب, طينة , سيراميك) مع إعادة بناء منازل إنشائياً كلياً أو جزئياً لعدد محدود منها.
ظواهر مدهشة بالدراسة والتنفيذ
(إرضاء الناس غاية لا تدرك) جملة لا يمكن قبولها أو قولها من أي مسؤول أو جهة دارسة أو منفذة لمشروع إعادة تأهيل وترميم منازل هذه القرى, أمام العشرات من الأهالي الذين استنكروا آلية العمل وسوء التنفيذ, ورداءة نوعية المواد أو جودتها التي تم تنفيذها وأسلوب التعامل معهم, وتجاهل استقبال عدد لا بأس به منهم عند مراجعة مديرية الخدمات الفنية للإجابة على تساؤلات واعتراض لهم حول ترميم وإكساء منازلهم، ولسان حالهم يقول إن مبلغ (مليار و 264 مليون ليرة، مع ربع الأعمال ليقفز المبلغ إلى أكثر من مليار ونصف) هل تم صرفها بالمشروع وفق توجيهات القيادة وإذا كان الأمر كذلك لتحولت القرى إلى قرى حديثة نموذجية مع انتهاء المشروع لكن الواقع غير ذلك برأيهم.
رئيس الجمعية الفلاحية في بلوطة يوسف نجيب سليم أكد أن منزله قبل المجزرة والتخريب الذي لحق به (كان مثل الذهب) كانت الأبواب من خشب ممتاز والنوافذ جيدة لكن بعد عودته إلى منزله وحضور لجنة الدراسة من الخدمات الفنية التي وضعت قيمة للكشف التقديري (3.745.000) ليرة, ونفذت أبواباً من الحور, فيما المكتوب بالكشف من نوع (سويد) وكذلك نوافذ الألمنيوم من النوع الرديء وبلا قفل, والدهان كلس, وتمّ وضع باب خارجي من الألمنيوم وتم نزع شبك الحديد عن النوافذ ولم تتم إعادته, وأمام هذا التنفيذ السيئ في الشتاء مع موسم الأمطار يطوف المنزل ويغرق بالمياه المتسربة من النوافذ ومن تشققات بالسطح والجدران, ولم يتم مد طينة موجودة كبند بالكشف التقديري, إضافة إلى مواد أخرى تم وضعها بالمنزل، طلبنا من سليم أن نطلع على الكشف التقديري لمطابقته مع ما تم تنفيذه على أرض الواقع, نفى وجود الكشف لديه أو صورة عنه تكون بحوزته, لكنه اطلع على الكشف في مبنى الخدمات الفنية لافتاً إلى أن هذا ما كان يسمح لهم به, وأكد عدم إكمال بنود الكشف خلال التنفيذ, فيما كان يطلب من الأهالي التوقيع على عجل بعد تنفيذ نسبة 25% من الكشف لصرف أعمال للمتعهد لمتابعة التنفيذ, واستنكر ارتفاع رقم الكشف على الورق فيما التنفيذ بالواقع لم يكلف برأيه أكثر من (700.000) ليرة وبناء عليه قرر تقديم شكوى نظامية منذ شهر مع رفع دعوى قضائية مع مجموعة لتصل إلى عائلة, بسبب سوء التنفيذ ورداءة المواد وعدم إكمال الكشف التقديري برقم (3.745.000) ليرة وأرقام أخرى متفاوتة بانتظار البت.
علي جميل إسماعيل من قرية أوبين رفض البقاء في مركز الإيواء بعد تحرير الجيش العربي السوري لقريته بعد (18) يوماً عاد لتفقد منزله, وجده خالياً وخاوياً تضفر فيه الرياح, بلا أبواب أو نوافذ أو أثاث مع تصدع بالسطح من القذائف, قرر بيع سبعة دونمات يملكها لترميم منزله وإعادة الإكساء لتعود العائلة وتستقر مع الأبناء (26) فرداً عندما حضرت اللجنة في نهاية 2016 كان قد شارف على الانتهاء من الأعمال.
وتوقف إسماعيل ليستدرك قائلاً إذا غاب الضمير الحي بتنفيذ المشروع لأهالي قرى وشعب طيب وبسيط ومجروح ومتألم من هول الفاجعة, ويقدر ظروف الحرب والأزمة الاقتصادية ولم يتوقع أن المشروع إعادة إعمار الريف الشمالي سينفذ بهذا التوقيت, مع دخول لجنة الدراسة والجهة المنفذة, سنشهد مفارقات, وملاحظات قد تصل إلى إشكالات بين الأهالي لأننا نعرف بعضنا وأوضاعنا قبل المجزرة وبعدها, لتظهر المحاباة والتحيز لبعض من تعرفهم اللجنة وما ينتج عنه من ظلم وسوء تقدير العاقبة، إضافة إلى سوء تنفيذ وعدم جودة المواد بغالبيتها.
شهيد حي ينتظر تزفيت 50 م للوصول إلى منزله
يبعد منزل الجريح مراد شوكت قادرو عن الطريق العام (50) م بطريق جبلي صعوداً في قرية أبو مكة وصلنا إلى منزله، وقبل الدخول شاهدنا تسرب الصرف الصحي المكشوف لعدم ربطه بالشبكة الرئيسية يجلس مراد على كرسي متحرك على شرفة منزله، بعد إصابته بالقصير في 10/10/2012 ما أدى إلى خزل أطراف علوية وشلل نصفي، بدأ كلامه بالشكر للاهتمام والرعاية بالموافقة على بناء منزل له في 2016 لكن الفرحة لم تكتمل بتزفيت مسافة (50) م مما يشكل لديه هاجساً وقلقاً عند حدوث أي طارئ يضطره للتنقل للمعالجة أو لأي سبب، مذكّراً بتوجيهات السيد الرئيس والتوصية بتزفيت الطرق إلى جانب منازل الجرحى بإصابات من 80% فما فوق لوصول سيارة الإسعاف عند الحاجة.
نكتة سمجة للأمانة!
خلال جولتنا السابقة والحالية في أوبين، لفت انتباهنا تكرار الأهالي في عدة منازل الحديث عن إلزامهم بتنفيذ الدهان الأبيض (الكلس) ومنهم من دهن الجدران بنوع (الزياتي) وبكلفة مرتفعة على نفقته الخاصة، وملزم بالدهان لأنه بند بالكشوف التقديرية لأغلب المنازل، وهناك من لديه (خلاطات للمغاسل أو الحمامات و المطبخ) من نوع ممتاز، تمّ نزعها وتركيب أنواع أثبتت فشل عملها بعد مدة كذلك بالكهرباء (نيونات) تمّ نزع الموجود بالمنازل وكانت جيدة، وشغالة، وكل نوافذ الألمنيوم بلا قفل وتبديلها بأنواع عادية أو سيئة؟!.
عادة الحياة للقرى.. والعوُد أحمد
في الطريق إلى قرى الريف الشمالي الجبلية، تسحرك الطبيعة الخلابة بين الوديان والجبال والغابات والحراج، مع نهاية الخريف تنتشر خيطان التبغ الجاف المعلقة بترتيب وانتظام بانتظار جمعها لبيعها في موسم عساه يحمل الوفرة للأهالي والخضروات المنزلية للاكتفاء الذاتي، وخاصة الفاصوليا المعرشة على القصب ستجدها قرب المنازل، فيما بساتين التفاح والأشجار المثمرة تكشف أن واقعها وخدمتها وجودتها ما بعد المجزرة ليست كما قبلها، لما تحتاجه من اهتمام بالتقليم والرش والحراثة مع ارتفاع تكاليف وسائل الإنتاج من أين الحراثة، والقرى فقدت الجرارات وأصحابها؟ مع ارتفاع تكلفة الحراثة إلى 5000 ليرة للدونم الواحد لتنخفض القدرة عند الأهالي على استثمار ورعاية كامل المساحة والعناية بها إلى دونم أو ثلاثة من أصل أكثر من (10-30) دونماً عند بعض العائلات، وهذا ينذر بأن مصادر الرزق من الزراعة تراجعت في هذه القرى.
تزامن وصولنا إلى القرى مع وجود صهريج المازوت لتوزيع (100) ليتر لكل عائلة، هل تكفي(100) ليتر في قرى جبلية، والخيار الآخر(40000) ليرة للطن الواحد من الحطب إن وجد، كيف سيتعاملون مع برد الشتاء في هذه القرى، من أطفال ونساء وكبار السن؟
عودة الأهالي للاستقرار في قراهم يتطلب تأمين الخدمات كافة، أبدى أغلب من التقيناهم القبول والرضى بما قامت به الجهات المعنية بتزامن دخول ورشات لإصلاح الكهرباء والمياه والهاتف مع تحريرها وعودتهم، لكن برزت شكوى من غياب الإنارة الشارعية في قرى يلفها الظلام ليلاً ليعيق التنقل بين المنازل والقرى المجاورة.
ومع عودة الأطفال والأبناء إلى المدارس توقفوا عند عقدة المواصلات والنقل بين القرى والوصول إلى المدينة، إن كان لطلاب الجامعة أو للموظفين، والشكوى من نقص وسائل النقل وخاصة في أوقات الذروة.
وداد إبراهيم
تصوير: هشام مرزوق