صنــــدوق الدنيــا

العدد: 9435

 الأحد-29-9-2019

 

أخذ يتلفت برأسه يميناً ويساراً متفحصاً وجوه الحاضرين الذين ملؤوا الدار وفناءه، منهم من علاه الشيب وتقدمه العكاز، ومنهم من تهدهده أمه بين ذراعيها، لم يعد باستطاعته إحصاء أحفاده وأولادهم، فقد بلغ من العمر تسعة وتسعين عاماً، بالكاد يستطيع الوقوف على ساقين سئمتا تكاليف حمله كل تلك الأعوام، وأوكلتا هذه المهمة إلى كرسيه المتحرك منذ عدة سنوات، مازالت يداه وفيتين رغم ارتعاشهما، ومازالت ذاكرته تحتفظ في ثناياها بصندوق الدنيا الذي يتسمر أفراد العائلة حوله يستمتعون بقصصه وحكاياته، اليوم عيد ميلاده التاسع والتسعين، والعائلة مجتمعة بقضها وقضيضها، بعجوزها ورضيعها، بأصهارها وكناتها، بأجيالها الخمسة التي لم يتبق من أولها إلا هو وكرسيه وصندوق دنياه، كل أبناء جيله قضوا ولم يتبق منهم إلا شواهد قبورهم، زوجته أم أحمد، إخوته، أولاد أعمامه وأخواله، أصدقاؤه، أبناء حيه ومدينته، رفاق السلاح في الثورة ضد المستعمر الفرنسي، أم كلثوم وجمهور مسرحها، وديع الصافي وصباح وجمهور مسرحهما القديم، هو الآن يعيش في عالم آخر غير عالمه، أو أن عالماً آخر يعيش معه وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة، عليه أن يطفأ شمعته التاسعة والتسعين ولا يدري لعلها الشمعة الأخيرة والنفخة الأخيرة، تقدمت إليه طفلة في العاشرة من عمرها فقبلته وهنأته، نظر في وجهها ملياً قائلاً: أهلاً بسعاد الغالية، دقت ابنته الصغرى (آخر العنقود) بعكازها عن يمينه مستدركة بصوتها المرتعش: هذه ليست سعاد يا أبتي، هذه ريهام ابنة مريم ابنة أمجد ابن أحمد رحمه الله، هز برأسه ومسح بيده المرتعشة شعر حفيدته الصغيرة، تناوب الجميع على تقبيله وتهنئته والدعاء له بطول العمر وزيادته بينما تناهى إلى جهاز السمع في أذنه أطراف أحاديث كانت تدور بين الحاضرين..
* ما شاء الله لازال ألق الحياة يشع من وجهه، دقوا على الخشب!
* حيويته توحي أنه في العقد السابع فقط من عمره!
* عشرون عاماً فقط ويدخل اسم عائلتنا (كتاب غينيس) تحت بند عميد المعمرين في العالم!
التف الجميع حول مائدة تصدرها أبو أحمد على كرسيه وانتصب فوق سطحها قالب الحلوى بشمعته المشتعلة وبدؤوا بالغناء (سنة حلوة يا جميل) تضافرت أصواتهم جميعاً لينقلها جهاز السمع إلى أذن (أبو أحمد) موسيقا تصلح لأن تكون سيمفونية الأجيال، نظر إلى لهب الشمعة أمامه أحسه يتراقص على أنغام هذه السيمفونية ويتسع متمدداً أمام عينيه ليصبح حجمه كحجم شاشة العرض في دور السينما، دارت مسننات صندوق الدنيا في ثنايا ذاكرته وبدأت تعرض صورها بشكل متتابع على شاشة اللهب أمامه، صورة شيخ الكتاب ينهال بعصا الخيزران على يديه الغضتين لأنه لم يحفظ سورة البقرة عن ظهر قلب، صورة والده يكافئه لأنه أحسن إدارة الدكان أثناء غيابه في الحج، صورة الأزقة العتيقة التي ركض في شعابها هارباً من العسكر الفرنسي بعد فضهم للمظاهرة، صورة المؤن التي اؤتمن على نقلها للثوار، كم كرمته رابطة المحاربين القدماء على بطولاته في مقارعة المستعمر، كانت قصص بطولاته تزداد عاماً بعد عام، ما الضير في ذلك هي أكاذيب بيضاء لكنه بناها على قاعدة واقعية حقيقية، هو كان بالفعل ينقل المؤن إلى الثوار المرابطين بينما استطاعت النساء في استوديو مسلسل باب الحارة صد دبابات الفرنسي عن بابها بجواربهن المشتعلة!، صورته محمولاً على الأكتاف يوم عرسه، صورته مهللاً لمواكب الاستقلال يوم الجلاء، صورته مع أم أحمد وأولادهما يتنزهون على ضفاف بردى، صورة ذهوله وخيبة أمله يوم النكبة، صورته ينهال بعصا الخيزران على ابنه أحمد لأنه رفض متابعة الدراسة في الثانوية، صورة رقصه فرحاً يوم إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة، صورة انكساره يوم النكسة، صورة توزيعه الحلوى يوم العبور المزدوج في تشرين، صوره في أعراس أولاده وبناته وصوره في تقبل عزاءات وفاتهم.
كانت شاشة اللهب تزداد اتقاداً ويتتابع تلاحق الصور عليها لكن أصوات الشباب والصبايا المنتمين إلى الجيل الرابع تعالت إلى مسمعيه تطالبه بإطفاء الشمعة، جدي أطفأ شمعتك، جدي أطفأ شمعتك، لماذا تريدون إطفاء شمعتي؟ إن لم يعد صندوق الدنيا يثير اهتمامكم دعوه لي لا تطفئوه اتركوني أجتر صوره فهي عالمي لا تجبروني على إطفائه قد لا يتسنى لي في العام القادم إشعال شمعة جديدة دعوها متقدة، عاودت أصواتهم إعادة الطلب بوتيرة أعلى واختلطت بصوت طنين جهاز السمع في أذنه، جدي أطفأ شمعتك…. جدي أطفأ شمعتك…وضع أصابعه المرتعشة على شفته السفلى مثبتاً الفك الاصطناعي داخل فمه واستجمع ما استطاع إلى الهواء في رئتيه الخائرتين سبيلاً….. ونفخ.

شروق ديب ضاهر

تصفح المزيد..
آخر الأخبار