العـــــدد 9434
الخميــــــس 26 أيلــــول 2019
لم أكن أجلس يوماً في مكان تواجد والدي هرباً من نشرات الأخبار التي تطل علينا كل حين، وبأخبارها التي لا تجلب لنا إلا ويلات الحروب والاغتيالات والتفجيرات والدمار والنزوح والخطف والقتل.
وكانت غرفتي ملاذي الوحيد، غرفتي التي تحايلت على لون الإسمنت الغامق فيها فرسمت فوقه شموساً وأزهاراً وفراشات، غرفتي التي استطعت الانفراد فيها لوحدي باعتباري الابنة الوحيدة لأبوي بين ثلاثة إخوة ذكور، غرفتي التي أزينها بالشموس والأقمار، والتي لم يدخلها يوماً راديو، كنت أكتفي بالإصغاء لموسيقاه، فأجلس لساعات أمام الشباك الذي يسمح لصوت الموسيقى بالوصول إلي.
لم أكن أعرف من يعزف، لكني استطعت تحديد البيت الأرضي القديم، شهور وأنا أجلس على نفس الشباك أستمع للموسيقى وأحلم برؤية العازف، وأخيراً تمكنت من رؤيته فوق ذلك المقعد الرمادي.
لعلني كنت في السادسة حين أحببت موسيقاه، ولعلني أصبحت في التاسعة حين تخلصت من قراره بعدم رؤية أحد، وتمكنت من رؤيته خلسة فوق ذلك المقعد الرمادي يعزف على طاولة بمفاتيح موسيقية عرفت فيما بعد أن اسمها البيانو، ولعلني كنت في العاشرة حين قررت كسر صمتي والتحدث معه.
لم يفتح حينها الباب رغم طرقي القوي والطويل عليه، ربما هو غريب من مدينة غريبة قادته ظروفه إليها، لم يسمح لي حينها بدخول عالم اختاره لنفسه هرباً من مسرح الحياة ومعاكساتها له، فضّل الابتعاد عن مسرح الدمى المقام بالخارج والذي يتسابق الناس لحجز مطارح لهم فيه بمكان حصّنه هو بأشياء من روحه.
وبقيت على ذلك الشباك سنين أصغي لموسيقاه، أو أراه يقرأ كتاباً، أو يسقي أزهاراً، ودون أن أدري كيف رأيته وقد احتلّ كل عقلي وتفكيري.
وأخيراً استجمعت شجاعتي وقررت اقتحام منزله، كان ينتظرني، فقد أقفل جميع الأبواب إلا الباب الوحيد الذي يمكنني الدخول منه، أو هكذا خُيّل لي.
قلت له بشوق كل تلك السنين: هل تعلمني العزف على البيانو؟
أجاب دون أن ينظر إلي: هل سمح لك والداك بالقدوم إلى هنا؟
ومرت أيام وأنا أخترع الحجج لآتي إليه، من فوق ذلك المقعد الرمادي عرفت الحياة من جديد وتعلمت أولى أبجدياتها، تعلمت قراءة النوتة والعزف على البيانو، تعرفت على مكيافيللي وسقراط وشوبان وبيتهوفن وغيرهم الكثير من الأسماء التي بصمت في حياتي وروحي، ولم تنفع كل محالات العائلة في إبعادي عنه، رغم قفلهم البيت ومنعهم لي من الخروج من المنزل وحيدة، وذهابهم لأول مرة في حياتهم إلى المشايخ ليكتبوا لي رقيات بعد أن فشلت كل وسائلهم الأخرى.
وفجأة في ليل شتائي بارد، رحل دون أن يخبرني شيئاً، رحل وتركني في نقاش لا ينتهي مع زوربا الذي أنصفنا نحن النساء ولا زال حتى الآن يتفاخر بذلك ويمنّنا لأجله.
تركني ألملم صوره في خفايا روحي لكي أتمكن من العيش بعده.
حتى الآن، وبعد مرور كل تلك السنين لم أستطع التحرر من ذكراه، رغم كل تلك السنين التي عشتها والحروب التي ما زالت حية بعدها والموت الكثير الذي عايشته وهو يخطئ طريقه إليّ…
بعد مرور كل تلك السنين وانتقالي لبيت زوجي، كلما قست عليّ الحياة أمسك عكازي وأذهب إلى جوار البيت القديم، الذي لم يعد قديم بعد التطور العمراني الحاصل في المدينة، فقد أصبح بناء حديثاً بعدة طوابق، أتذكره كيف كان يقود مقعده كما أقود عكازي اليوم، تصل لأذني صوت موسيقاه، أحاول استحضار ملامحه التي غابت عن ذاكرتي بحكم السنين الطويلة، والتي لن تغيب أبداً.
أنظر إلى ذاك الشباك فأرى طفلة بجدائل شقراء طويلة كانت يوماً ما أنا، أنظر لجدائلي البيضاء الطويلة كيف تغيرت ولعيوني كيف خسرت بريقها، ربما هذا الأمر الطبيعي الذي قد يحدث لأي امرأة فوق الستين هجرها أبناؤها هرباً من الحرب.
أقف قليلاً غير آبهة بسكان البيت الذين يستغربون وجودي فلا أعيرهم أي اهتمام، ثم أسمح لعكازي أن يقودني حيث يشاء، أبتسم وأنا أبتعد، أرحل، هكذا بصمت كما رحل هو.
رنا محمد