العـــــدد 9434
الخميــــــس 26 أيلــــول 2019
في وجود إنساني مازال يسطر سؤاله على المدارات، خلق رؤى متعددة واجهت نفسها عبر التاريخ، فتباينت في مظهرها وهيكليتها، وتبدلت وتغيرت لتلاقي نفسها مع واقع يغترب تارة ويقرب تارة أخرى، ولكن المواجهة الحقيقية والتي كانت الأصعب دوماً هي مواجهة الذات ومكاشفتها في هذا العالم المعقد المتشابك، والبحث في الأعماق والأعماق للنفس البشرية في محاولة للقاء مع الروح فيها، هذه الروح التي ما زالت هي الاستفهام الوحيد، وبقي البوح والإفصاح للأنا في التصاقها بذاتها محوراً لكل نتاج معرفي، ولتكون المعرفة الحقيقية هي المرتجى في كل وقت وظرف زماني ومكاني، هذه اللحظة التي يقف فيها التفكير ليطلق العنان للروح تسطر مكنوناتها، تعبر، تفرح قليلاً وتحزن وتبكي كثيراً في محاولة حثيثة لغسل الجسد والروح معاً في تطهر وتخلّص من أعباء النفس التي تثقل كاهل الأيام، في هذه اللحظة وبما تحمله من قدسية ظلت هي الأنقى لأنها تعانق اعترافات وبوح …
هذا البوح حالة عفوية، تلقائية، طبيعية ولدت منذ ولادة الإنسان على سطح الأرض وأخذت أبعادها في تمدد ونقصان ظللتها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحاط بها الفرد، وينطبع بطابعها، يخافها أحياناً ويتمرد عليها أحياناً أخرى لكنه بقي ملازماً ليقظة الإنسان في حلمه، وعلى شفاهه ويومه ونتاجه الذي دوّنه على ما سميّ بالأدب بما ضم بين جنباته من رواية وشعر وقصة ونثر وكل أشكال التعبير المختلفة، فاقترن البوح به قديماً وحديثاً عند الشعوب كافة إلا أنه ظهر بشكله الواضح وكما يقال في الآداب الغربية من فكرة الاعترافات المترسخة في الديانة المسيحية التي ترتبط بالتطهر الروحي كسبيل لراحة النفس والذي ظهر جلياً في الآداب الغربية ونتاجها بدا واضحاً عند بعض الأدباء مثل جان جاك روسو بإنتاج أدبي عن حياته الخاصة، ونيتشه، وبودلير، وأوسكار وايلد، واندريه جيد والقديس أوغسطين حيث اعتبر الغرب هذه الحالة في مقدمة الإبداع الأدبي، رغم ما تحمل من توصيفات شخصية الأديب نفسها بانكسارها ووضوحها وإسقاطاتها ضمن بيئتها المتفاعلة مع كل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدون رقيب داخلي أو رقيب خارجي وسمي هذا الأدب (بأدب الحياة ).
أدب الحياة هذا الرقيب كان موجوداً في منطقتنا العربية وظهر واضحاً عند العديد من الأدباء وكان النتاج الأدبي يطرح نفسه ولكن باستحياء بسبب المعتقدات والموروثات المختلفة والطبيعة الديموغرافية مع مجموعة الظروف الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث جعلت من الأدباء الذين كتبوا الاعتراف أعدادهم قليلة والبوح عندهم يوارب الباب كثيراً, فالأسماء مثل طه حسين الذي تحدث عن طفولته في مذكراته في كتاب الأيام وسهيل إدريس ونجيب محفوظ الذي أجرى معه رجاء النقاش حوار طويل نشر بحلقات متسلسلة في أحد المطبوعات وكان بمثابة اعترافات عن أسرته وأهله وأثار ضجة كبيرة مما أدى إلى حذفها كلها، كما أن الروائي محمد شكري في روايته (الخبز الحافي) الذي أظهر فيه حقيقة المجتمع المغربي بكل أزقته وزواريب وأعماق العيش فلاقت استهجاناً مغربياً وعربياً كونها تكشف وتعري الواقع ومع هذا فقد طبعت بـ ٢٠ لغة عالمية، والأديبة د. عائشة عبد الرحمن الملقبة ببنت الشاطئ التي كتبت معاناتها، وأيضاً القاصة والروائية العراقية ديزي الأمير وكيف أحدثت سيرتها الذاتية ضجة بالرفض القاطع لهذا النوع من الأدب الجريء والذي كان البعض يطلق عليه بالسيرة الذاتية المماثل لما كتبه شريف حتاتة ونوال السعداوي وفخري لبيب ود. لويس عوض وفدوى طوقان في رسائلها الكثيرة لأنور المعداوي وأيضاً رسائل غسان كنفاني للأديبة غادة السمان، لتتحول هذه الاعترافات إلى سيرة ذاتية تحمل شخصية كاتبها على مرحلة زمنية، حتى أن (جورج ماي) هو أول من اعتبر أن رواج هذه الاعترافات هو الذي أسس للسير الذاتية التي تعرضت للنقد الكبير هنا في منطقتنا العربية ولاقت ما لاقت طعنات ورفض حتى اضطر الأدباء إلى الكتابة بأسماء مستعارة أو تحميل شخصيات روايتهم للبوح عما يكنونه هم نفسهم، يتخفون بين قناعاتها وتصرفاتها كما شخصية عطية لنجيب محفوظ في إحدى رواياته والتي هي في الحقيقة شخصيته هو حيث ألبس الشخصية بكتابة دلالية دون الاعتراف.
بقي الأمر في مجتمعاتنا العربية رغم التطور الحاصل لا يقبل المكاشفة والمصارحة اللذين هما العنصران الأساسيان في أدب البوح أو أدب الاعتراف بسبب عدم توافر التربة الصالحة لنموه وكثرة التحريمات والتابوهات في نتاج عقلي انغلق شيئاً فشيئاً مع تطور العالم حولنا، حتى أن بعض النقاد كان قد ربط بعض هذه الاعترافات بالنرجسية وبنظرة استعلائية للكاتب في عرض سيرته حيث كان يظهر الأديب الجوانب الإيجابية له كثيراً جعل الجدال دائر بين مؤيد ومعارض لفكرة البوح والاعتراف التي لم تتواجد بحريتها منطقها الطبيعي في مشرقنا.
في الوقت الذي استفاد الغرب من هذه الاعترافات التي كشفت المجتمع مما دفع المتخصصين وعلماء النفس والاجتماع والقانون بشكل جدي في إصلاح المجتمع الغربي فيما سمي (ميثاق الأتوبيوغرافي) بينما ظل المجتمع العربي مريضاً بعقلية تسوّرها المحرمات، وتغلق العقول، تكمم الأفواه وتسدل الستائر على مكنونات القلب في زمن انفتاح عالمي بلا حدود، وفي ظل ظروف معيشية صعبة يحتاج فيها المرء أكثر ما يحتاج إلى البوح وإسماع صوته بشكل أقوى من كل وقت، ولعل التفاؤل بهذا البوح الذي لن يمر بالقرب منا قريباً مؤلماً، هذا الصخب الداخلي الذي لا يسمح له بالعبور عبر بوابات البوح جعل من العربي شخصية مهمشة، مهشمة تداري ضعفها بضعف أكبر يظهر في صورتنا المشوهة بالبطولات الهلامية الخادعة في كل جزء من مفاصل حياتنا، في حالة من التمزق والتفتت الداخلية ظهرت في ازدواجية مقيتة وسمت الشخصية العربية بصفات تبتعد عن المقاييس الإنسانية كثيراً وهذا ما يجعل الألم حد البكاء، هذا البكاء الذي لا مطرح له في منطقتنا العربية ولا مطرح للروح والبوح والغفران.
وكما يقول أدونيس: «ليس لدينا حتى الآن أدب الاعترافات، فالشخص العربي دائماً يشاهد نفسه يولد ويكبر ويموت إنساناً معصوماً من الخطأ».
سلمى حلوم