السرقات الأدبية جرائم تطال الملكية الفكرية

العدد: 9432

الثلاثاء: 24-9-2019

 

والأدب في التعريف هو نوع من أنواع التعبير الراقي عن المشاعر الإنسانيّة التي تجول بخاطر الكاتب، والتعبير عن أفكاره، وآرائه، وخبرته الإنسانيّة في الحياة، وذلك من خلال الكتابة بعدّة أشكال، سواء أكانت كتابة نثريّة أو شعريّة، أو غيرها من أشكال التعبير في الأدب، وإنّ الأدب ما هو إلّا نتاج فكريّ يشكّل في مجموعه الحضارة الفكريّة واللغوية لأمّة من الأمم وهو انعكاس لثقافتها ومجتمعها، وعلى الرغم من تنوعه بين الرواية والشعر والقصة والمسرحية والمقالة والسيرة وعلى الرغم من أن الأدب إبداع كباقي الفنون تميزه الفكرة واللفظ، إلا أن السرقة بكل ما للكلمة من معنى قد طالته كأي اختراع أو إنتاج والسرقة الفكرية أو الأدبية من حيث التعريف هي: ادعاء شخص صراحة أو ضمنيًا بكتابة ما كتبه آخر أو النقل مما كتبه آخرون كلياً أو جزئياً بدون عزو أو اعتراف مناسب.
وتعرف السرقة الأدبية على أنها أخذ فكرة النص الأدبي، أو أخذ النص الأدبي بحد ذاته ونسبه إلى كاتب آخر، وقد تتم هذه السرقة على مستوى مؤلف النص الأدبي، أو على مستوى الجهة التي قامت بنشر نصوص المؤلف، وتعد السرقة الأدبية من الجرائم التي تطال الملكية الفكرية، والتي لا تقل أهميتها عن أي سرقة مادية، لأن النصّ الأدبي نوع من الإبداع الذاتي الذي ينم عن عبقرية الكاتب، فأي فضل وأي إبداع للسارق.
إن السرقات الأدبية من الأمور التي تضرّ الأديب بكل تأكيد، والكاتب والباحث، وتجعله يفقد مصداقيته، وذلك ليس لأنه لم يقدر عمل الآخرين فقط بل لأنه يهمش ويلغي جهدهم وإبداعهم و يشوهه، ولم تقتصر السرقات الأدبية على نوع أدبي محدد بل طالت كل الأنواع الأدبية الشعرية والقصيصة والروائية، والتي من خلالها يقوم السارق بنسبها لنفسه، بغية إظهار مواهبه وللسرقة الأدبية أنواع وفنون تختلف من سارق إلى آخر إما بالشكل أو المضمون وهي بحسب المختصين: سرقة اللفظ وهنا يقوم كاتب النص الأدبي المسروق بأخذ ألفاظ حرفية من أعمال أدبية أخرى ودمجها ضمن العمل الأدبي الخاص به من أجل التمويه على القارئ، وانتحال شخصية الكاتب الأصلي دون علم أحد، سرقة المعنى: وهنا يقوم سارق النصّ الأدبي بأخذ المعنى الحرفي لجملة معينة، والتحايل على الألفاظ من أجل الوصول إلى المعنى ذاته، حيث أن الفكرة القوية قد تتشكل بصيغ لفظية أخرى، لكنها تحمل المعنى الذي ورد في النص الأصلي، سرقة اللفظ والمعنى: وهنا تكون السرقات الأدبية في أبشع صورتها، حيث يقوم السارق بنسخ الألفاظ والمعاني بشكل صريح، فقد يتم نسخ بعض الجمل بشكل كامل، وقد يصل الأمر في بعض الفنون الأدبية ذات الطول النسبي كالأعمال الروائية إلى نسخ صفحات بأكملها من أعمال أدبية أخرى، و قيل إن مشاهير السرقات الأدبية ماتوا جميعاً بعد أن حققوا من كتاباتهم نجاحاً وشهرة قلّ نظيرهما منهم دانتي وكتابه (الكوميديا الإلهية) فحجم السرقة للأديب الإيطالي من (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، واضحة وجلية وكتب عنها الكثير.
وها هو الأديب إبراهيم عبد القادر المازني يردّ بعد اتهامه بسرقة رواية ابن الطبيعة قائلاً: إن أربع أو خمس صفحات علقت بذاكرتي من هذه الرواية دون أن أدري وذلك لعمق الأثر الذي تركته في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي، حدث ذلك على الرغم من السرقة التي قرأت بها الرواية الأجنبية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً ومن شاء أن يصدق فليصدق ومن شاء أن يحسبني مجنوناً فإن له ذلك، ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي، فما يعنيني هذا وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر هائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط تعرفه ومن غير أن يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى ويغيب عنه الشيء ويحضر! والسرقات الأدبية ليست بجديدة بل قديمة كل القدم، فقد أشار إليها ابن المقفع في كتابه الأدب الصغير والأدب الكبير، ناهياً عنها بقوله: إن سمعت من صاحبك كلاماً ما أو رأيت منه رأياً يعجبك، فلا تنتحله تزيناً به عند الناس، واكتفِ من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه، واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عاراً وسخفاً، ومن النقاد والرواة من دأب على تتبع السرقات وتوثيقها، و لم يكتفوا بالإشارة إليها ومنهم على سبيل المثال، محمد بن سلام، في كتابه (طبقات فحول الشعراء)، و تتنوَّع أشكال المُؤلَّفات، والنصوص الأدبيّة، كما تتنوَّع البحوث العلميّة، والدراسات المختلفة في شتَّى المجالات؛ ولذلك تختلف أشكال السرقات الأدبيّة، والفكريّة وقد وضع النقَّاد، والشعراء قديماً مجموعة من الضوابط، والقواعد التي تُتيح لهم التفرقة بين النصِّ المسروق من سواه، فضبطوا عدداً من أنواع التكرار، والتشابُه التي تَقي صاحبها من تُهمة السرقة الأدبيّة، إذ لا يُعدّ مَن يستخدم تلك الأنماط سارقاً، أو مُتجنِّياً على نصِّ غيره، ومنها:
المُشتركات: وهي ما يشترك فيه عامّة الناس من مشاعر، وهواجس، وأحوال، مثل: الحزن، والخوف، والفرح، والخيبة، والرجاء، والأمل. المَرئيّات: وهي كلّ ما يراه الناس من مناظر طبيعيّة، كغروب الشمس، وشروقها، إذ إنّه منظر لا يخفى على الناس رونقه، وبهاؤه، وقد يتشابه الكُتَّاب في وصف جمال شروق الشمس، ودفء غروبها مثلاً. اتِّحاد الموضوع: فالمدح، والهجاء، والرثاء، والفخر، والامتنان، والغزل، ما هي إلّا مواضيع عامّة يشتركُ في وَصْفها، وتدوينها، وتحليلها المُؤلِّفون، والشُّعراء، قديماً، وحديثاً. الشيوع: وهو التكرار، وقد عُرِف قديماً بالتداوُل؛ أي أن يتداوَل الشعراء معنىً من المعاني الدارجة، ومع تكراره، وكثرة تداوُله، يُصبح المعنى شائعاً، ومُنتشراً بين عامّة الناس. الإحسان: ويُقصَد به أن يُحسِّن الشاعر، أو الكاتب، من صياغة إحدى المعاني الرديئة التي استخدمَها شاعرٌ قبله. الإضافة: وهي أن تتمّ إضافة بُعدٍ جماليٍّ مُعيّن إلى معنىً سابق، فيعطيه رونقاً مختلفاً، وثِقلاً، وعُمقاً أكبر من المعنى الأصليّ الذي سبقَه. النَّقض: وفيه يأتي الشاعر بمعنىً يُناقِض فيه قول شاعر آخر. التوليد: وهو أن يُنشِئ الشاعر مَعانٍ جديدة من مفردات، وتراكيب سابقة، بحيث يُولِّد الاستخدام الجديد للتراكيب معنىً آخر. توارُد الخواطر: حيث قد يروي شاعران وصفهما لمنظر ما، أو لشعور مُعيَّن، فيتشابه الوصفان دون علمٍ منهما، أو تَعمُّد. الاستبطان: وينشأ ذلك، بسبب كثرة مُطالعة الشعراء، والكُتَّاب، وغزارة معرفتهم بالشِّعر، إذ قد يبني الشاعر رُؤية جديدة لتصُّور ما قد جمعه من قراءاته، واستودعها في عقله الباطن، وخياله، وحينما يستدعيها بتلقائيّة، قد ينسى أصل المصادر التي كوَّنتها فيه، وركَّبت معناها عنده. الالتقاط: وهو كالاستبطان، إلّا أنَّه يُجمَع ممَّا تتناقلُه أفواه الناس، وممَّا يشيعُ على ألسنتهم من أخبار، وأوصاف، وأمثال، وحكايا. التضمين والاستعانة: وهو أن يُضمِّن الشاعر بيتاً لغيره في قصيدته، مُستعيناً بتركيبه على سبيل التمثُّل، ويُشترَط أن يُمهِّد لهذا الاقتباس على أنَّه مأخوذ من غيره؛ حيث يكون بيت التمهيد للاقتباس بمثابة اعتراف خطّي بأنَّ البيت القادم في القصيدة إنَّما هو مُقتبَس من شاعر آخر. وإن أبدع تصنيف للسرقات ما ذكره ابن الأثير في المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر فقال: السرقات ثلاثة أنواع: النسخ، والسلخ، والمسخ. أما النسخ فأخذ المعنى واللفظ برمته من غير زيادة عليه، والسلخ أخذ بعض المعنى، وهو مأخوذ من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم، والمسخ إحالة المعنى إلى ما دونه، ومأخوذ من مسخ الآدميين قردة.
لكن السرقات الأدبية أخذت شكلًا وتعريفًا أدبيّاً مختلفاً فيما بعد بين (تناص وتلاص)، وترجمة ونسخ، ونقل وتقليد، ومعالقة ومحاكاة، حتى دفعت المهتمين إلى إيجاد أدوات لكشف السرقات الأدبية فمع تزايُد عدد الصُّحف، والنشرات، والأبحاث، والمقالات، والمُؤلَّفات، وتعدُّد وسائل النَّشر التي قد تكون ورقيّة، أو إلكترونيّة، فإنّ عمليّة التحقُّق من حقيقة المحتوى المكتوب، أو المنقول، واكتشاف ما إن كان يحتوي على أيِّ سرقة أدبيّة يُعَدُّ أمراً صعباً؛ ولذلك ظهرت عدَّة برامج، وأدوات تُساعد على تحليل النصوص، والتحقُّق من مرجعيَّتها، ومدى أصالة محتواها، أو مدى التلاعُب فيها، وتزييف حقيقتها، حيث إنّ هناك برامج، ومواقع إلكترونيّة تُقدِّم هذه الخدمة مجّاناً، وهناك مواقع، وبرامج أخرى مدفوعة الثمن، إلّا أنّه قَبل الشروع في اختيار الموقع الإلكترونيّ، أو البرنامج الحاسوبيّ المُخصَّص لذلك، فإنّه ينبغي التحقُّق من عدد اللغات التي يُتيحُها في عمليّات البحث، إذ نجدُ أنّ هناك مواقع تُجري عمليّات بحثها ضمن 190 لغة، إضافة إلى التحقُّق من سُرعة الاستخدام، وسُهولته، حيث إنَّ بعض النُّسخ المجّانية تكون بطيئة جدّاً، ومُعقَّدة، بعكس النُّسَخ المدفوعة، كما ينبغي التأكُّد من عدد الكلمات، أو الأحرُف المسموح بإدخالها للتحقُّق منها، فهناك مواقع تُتيح رَفع 5000 كلمة شهريّاً، ومن الجدير بالذكر أنَّه لا بُدّ من معرفة آليَّة عمل التدقيق المعمول بها في الموقع الإلكترونيّ، للحصول على نتائج أكثر دقَّة، فهناك مواقع تبحث في كلّ كلمة في المقال، أو البحث المُراد التحقُّق منه، والبعض الآخر يُقسِّم المقال إلى عدَّة جُمل يتمُّ التحقُّق منها مُجتمعة، وهذا يُؤثِّر بشكل واضح في دقَّة النتائج، وصحَّتها.
فهل بمقدورنا الحفاظ على أصالة أدبنا بأن يكون أدباً ابداعياً أم أن الأمر صعب ومستحيل تحقيقه ولابد من شر التقليد والنسخ والاتباع.
والحكم بالأصالة أو السرقة يحتاج إلى معرفة واسعة وعميقة بالأدب وفنونه، واطلاع وتعمق بالتراث الأدبي، حتى يسهل ربط النتاجات الأدبية بعضها ببعض المتقدم بالمتأخر منها، ويعرف السابق من اللاحق، ويمكن حينئذ الحكم بالإبداع أو السرقة.

رواد حسن

تصفح المزيد..
آخر الأخبار