التباهــــي… بريســـــتيج يتقنــه نـــاس هـــذا الزمــــــان!

العـــــدد 9431

الإثنـــــين 23 أيلــــول 2019

 

لقد طال قول المتنبي فينا (ملأى السنابل تنحني بتواضع.. والفارغات رؤوسهن شوامخ) صحيح أننا نفتخر، ولنا الحق بذلك، بأهل صنعوا المعجزات وحققوا الانتصارات في حرب دامت لسنوات أتت على الجميع حتى النفس فينا، ليكون لبعضنا أن يبلسم الجراح ولو لم يستطع لها ركباً، لكن ما انعكس سلباً على بعضنا من بعضهم، تفاخرهم بإنجازات ومساعدات قدمها آخرون ليبرزوا هم فيها أصحاب الفضل ولهم الثواب، وبكل فخر واعتزاز يصورون (سلفي) ويعلنوها على الملأ والفيس بوك، وقد يأخذ بعضهم صورة مع صحن الفتوش ونحن في المطعم كذا فيصب لهم الرفاق (لايك) .
إنه الإغراء وبما زودنا هذا الزمان من تطور ومفرزات التكنولوجيا التي وضعت بأيدينا كل أسباب الرغد والراحة والاسترخاء وأرخت بظلالها من التباهي والتفاخر ما يحجب عن بؤس وشقاء تخطى أرقاماً بقياسات على وجه المجتمع وبأضعف ناسه وظهرت عليهم بأمراض وفقاعات طفت بلا رادع ولا علاج، فقد بتنا نزهق روح الراتب وجسده العليل في أشياء تلزمنا ولا تلزمنا (وما حدا أحسن من حدا) ليكون الجميع على حد سواء وعلى وضعهم متكبرين بمظاهر واهية لكنها جلية واضحة للعيان متنفسهم (الأنستغرام) والجوال ولسان حال، لتطال المآتم كما الأفراح، حتى تجد قبر فلان مرصعاً بالأحجار وحدائق تلفه بالزهور وسور حديدي يمنع عنه المتطفلين والسارقين كما هي القصور.
إن كان الحال هذا في الأحزان فكيف في حفلات الميلاد والزفاف والتنافس فيها كبير وبلسان طويل بمزايدة علنية تأتي على الإشهار بالإفلاس، حيث الساحة فيها واسعة لناس أتقنوا التفاخر وهو لديهم (بريستيج)، ليتغنوا بما ليس عندهم وقد استعاروا له الفرش واستدانوا القرش ليكونوا من الطبقة المخملية ولو استقرضوا من البنوك وغرقوا في الديون وما استطاعوا التقسيط.

* أم مجد، تقول: نعلم حقاً إن ما نقوم به اليوم كله (فشخرة فاضية) وكلنا قد ابتلينا بذات الداء، والكل يكذب ويدعي الغنى ويرفض القلة، وأصبح واجباً علينا أن نصنع لأولادنا كل ما يبهجهم ويفرح قلوبهم الصغيرة، ليكونوا كما غيرهم من رفاقهم الذين يتفاخرون بأعياد ميلادهم التي كلفتهم عشرات الآلاف بل مئات، لا أرضى أن يكونوا أقل منهم، وقد سحبت قرضاً ليكون عيد ميلاد ابنتي شهد في روتانا لأرى الفرح في عيونها وأتيت لها بهدية هي أحدث موبايل تجاوز ثمنه المائة ألف ليرة، إننا نشتري سعادتنا ولو كلفتنا ما فوق طاقتنا.
* هبة، شابة جامعية: المظاهر اليوم أهم من التربية والأخلاق التي تغنى بها الشعراء وكنا بها أشداء وألزمنا بها الآباء، وحتى المشاعر هي تشترى وتباع، لقد سلبتني صديقتي خطيبي ولم أكن قد كلفته شيئاً لأجل أن يكون مرتاحاً ولا أشغل باله بالكثير من المتطلبات، تركته على راحته يرتب أمور بيتنا وزواجنا بأقلها، لكني تفاجأت بأنه تركني لأجل فتاة مغناج وعلى وجهها الصباغ والماكياج وتلحق الموضة ومحلات الماركات والأجنبي كما تدعي فقد رأيتها في البالة عدة مرات فهي ابنة جيراننا ونعلم بحال أهلها الذين يكدون لأجل عيشهم ليل نهار وبالكاد يعيشون لكنهم يكسبون في جولات الحديث والتباهي بما ليس عندهم، وقد قلت في نفسي (بيستاهلا، وليس هو أحسن منها).
* الشابة ربا، توظفت منذ أشهر فقط في شركة خاصة، أكدت أنه في بعض الأحيان تفرض طبيعة عملنا والمكان الذي نتولى الشغل فيه والمنصب لباساً لائقاً وباهظ الثمن يحسن مقامنا، وحتى أنه ينعكس على جودة العمل ونجاحنا فيه، وقد يتجاوز سعرها الراتب الشهري الذي نقبضه خصوصاً في هذه الأيام الجائرة علينا وكل شيء فيها غال، وكنت قد ظننت أني سأساعد أهلي بمصروف البيت لكن هيهات أن يكفيني لمصاريفي وحدي، فأنا مضطرة أيضاً لأن أتباهى مثل رفيقاتي اللواتي ليس لديهن سيرة غير أنهن قصدن الشاطئ، والغذاء في المطعم كذا كلفهن (هاك الحسبة) وسجلن بالنادي الرياضي وزرن أغلى صالونات التجميل وغيرها الكثير الذي يشعرك بالدوران والغثيان، خاصة أن بعضهن يستدين (ادين وتزين).
* السيدة ابتسام، موظفة: حريصة على اتباع الموضة في شراء الملابس والأحذية والماكياج والعطور ذات الأسعار الغالية وتقول: لا أرضى بأٌقل من ذلك، المظاهر والشكليات تكلفني كثيراً لأن هناك تنافساً كبيراً بين صديقاتي وقريباتي على اقتناء الماركات العالمية حتى ولو كان ذلك ديناً على الراتب لعدة شهور أو قرضاً وأحياناً أطلب المساعدة من أهلي، ودائماً أقول لنفسي يجب أن أتخلى عن هذه المظاهر ولم أستطع فعل ذلك بل أصبحت أختي مثلي وأنصحها قبل أن تصبح ضحية التفاخر، أيضاً أدعي السفر والسياحة وقضاء عدة أيام في أماكن مميزة ومكلفة وأنا أبقى في المنزل لدرجة أنني لا أرد على الهاتف الثابت وأحصل على معلومات عن الأماكن وأسمعها لصديقاتي.
* أنعام، مدرسة: أكثر ما يزعجني وجود أشخاص يرتدون لباساً مزيفاً ويدعون العلم والمعرفة من خلال وجودهم في أحد الأماكن وجمع بعض العبارات والكلمات وحضور بعض النقاشات والمحاضرات يسجلون معلومات ونصائح يحاولون إيصالها إلى الغير على أنها مبتكراتهم وأفكارهم، وأحياناً يتلفظون اللغة الانكليزية ليظهروا للجميع مدى ثقافتهم ويعتلون المنابر، وما إن توجه إليهم بعض الأسئلة تتكشف الأمور ويقفون عاجزين عن الإجابة ويضعون أنفسهم في مواقف محرجة، فالعلم والمعرفة دراسة وبحث واجتهاد.
* مسعود: صفة التباهي تخلق المشاكل والتوتر في الأجواء العائلية وهذه معاناتي مع زوجتي هي من النوع الغير مبال ومهتم بتعبي وشقائي، وهمها الأكبر ما أحضره لها ويجب عدم دخولي فارغ اليدين وما أن تسمع بزيارة لمنزلنا تبدأ بتسجيل لائحة الطلبات من أغلى أنواع الفواكه والحلويات ومتممات الضيافة والويل الويل لجيوبي إن كانت عزيمة طعام، عزومة واحدة تأخذ نصف راتبي، فأنا أعمل بعد دوامي بأعمال مجهدة ومتعبة لتسديد فواتير طلباتها ودائماً تقول: هم ليسوا أفضل مني بل يجب أن أقدم لهم أكثر ما يقدمون ويجب أن نظهر لهم أننا الأغنى والأفضل.
* منذر: أصبحت ظاهرة التفاخر في الوقت الحاضر ملفتة للنظر والجميع يحبون أن يظهروا بمظاهر مميزة والادعاء بأنهم يملكون ويظهرون بعكس الواقع الذي يعيشون به حتى طالت جميع مجالات الحياة مما جعلني أضع لأولادي مدرساً خصوصياً مكلفاً جداً حرصاً على تعليمهم وعدم شعورهم بالنقص لأن زملاءهم وأولاد الجيران يأخذون عند نفس الأستاذ على الرغم من غلاء الدرس ويصل إلى 700 ليرة على الحصة وهذا يشكل عبئاً مادياً وحملاً ثقيلاً ولكن ماذا أفعل هذا هو الوضع الذي نعيشه وإلا يصفوني بالأب المقصر وأحمل سبب فشلهم في مستقبلهم.
لقد ابتلينا بالتفاخر في مظاهر عيشنا كلها المجلجلة وأصابت منا الصميم، لنجد من يتباهى بتعدد لغاته الأجنبية (الفرنسية، الانكليزية، الروسية، الصينية..) في كل مناسبة ويقصم ظهر لغة أهله ببعض الكلمات الأجنبية لظهور يبغيه، وينسى فيه لغة الأصل والعلم والفصل خلال عام دراسي، وحتى في الحضانة والمهد نلقنه بعض كلمات حفظناها وسمعناها ليشرب من كأس (الأكابرية) ..
و(عجبي) إلى أين تأخذنا هذه المظاهر والفوارغ التي فيها الخواء لمجتمعنا الذي لطالما عاش برضا وبساطة وراحة بال، وأهلنا كانوا من لديه محصول ونتاج لعمله وجاره أو قريبه في قحط كان يعطيه ما يرد عنه الحاجة والقلة ليعيشا معاً ببحبوحة وسلام، كانت البركة تنزل بأرزاقهم وبيوتهم بخير وأولادهم بسعادة رغم كل التعب والشقاء، ونحن اليوم رغم الاتساع وتوفر كل أسباب الرفاهية والراحة إلا أنا نشكو الضيق ولسنا برزقنا وعيشنا راضين، في بيتنا تعلو أصواتنا بحاجاتنا وخارجه تعتلي مراكبنا وتبخر في اصطناع التجمل والمظاهر لإشباع رغباتنا بشرط الاستدانة التي تستهلك قوانا فقد بات البائعون يطالبون المستدينين بديونهم والتي فاقت رأسمالهم وقليل منهم يرد كما البنوك تشتكي من المقصرين والمحجمين عن أقساط قروضهم، لكن (اللي بدو يتجمل بدو يتحمل ) وتحمل يا رعاك الله !!

هدى سلوم- معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار