العدد: 9427
الثلاثاء:17-9-2019
إيميسا، اسم آلهة الشمس عند السوريين القدماء، اسم مدينة حمص السورية قديماً، هو اسم وسمت به الكاتبة الروائية السورية هلا أحمد علي روايتها الصادرة حديثاً عن دار التكوين (2019) ليوقع قلمها أولى بواكير إبداعه الروائي.
في (إيميسا) سرد سلس هادئ متتابع لأحداث جارفة وتناقضات متضاربة محركها وحدثها الأساسي وزمنها هو الحرب، تناول ذكي شيق لتداعيات النفس البشرية وأطوارها المختلفة في زمن الحرب من حب وكراهية، من يأس وأمل، من هزيمة وانتصار، من حياة وموت، من شك ويقين، من ترقب ولا مبالاة، تعدد في الشخصيات وغوص ممتع وأنيق وصادق في تفاصيل النفوس واختلاجاتها وانعكاس انفعالاتها على صورها الجسدية دون اهمال التصوير المكاني حيث يعيش أبطال الرواية ووقائعها، بل ترتقي الكاتبة بالمكان وتفاصيله ليصبح عنصرا أساسياً في صلب المشهد الروائي لا مجرد إطار مكاني يحيط بالأحداث الأمر الذي ينتقل بالقارئ من مقعده إلى ما بين الدفتين تماماً كما تنتقل تقنية الأبعاد الثلاثية في مشاهدة الفيلم السينمائي من مقعده إلى داخل شاشة العرض.
تحليل الرواية ونقدها نتركه للقرّاء والنقّاد الكرام ونستضيف كاتبة الرواية على صفحات جريدتنا بهدف استشراف ومضات الروح في دواخلها معتمدين على ومضات من وحي روايتها (إيميسا).
* للنساء قدرة هائلة على النسيان وطاقة رهيبة على النهوض من الحرب والأزمات، في إيميسا يحتل العنصر النسائي مساحة واسعة وتأثيراً فاعلاً وأساسياً في مجرى الأحداث، كيف تنظر الكاتبة إلى واقع المرأة السورية عموماً، وأي دور اضطلعت به أو أجبرت على اضطلاعه في خصوصية الحرب؟
** ربما تكون قضية المرأة من أشد القضايا حساسية وخطورة، حين أناقشها أشعر بالغبن وبالتشاؤم معاً، أما الغبن فهو لأنني ما إن أسمع لفظ امرأة حتى أستحضر لا شعورياً كل المظالم التي وقعت وتقع يومياً على المرأة، المرأة للأسف لم تأخذ دورها ولم تتحرر حتى الآن، ودعيني أعرّج قليلاً على مسألة هامة تتعلق أو تمهد لحديثنا عن الدور الذي اضطلعت به المرأة حين الحرب وتحت النار ومع الفقر ومع الخطر ومع غياب السند والى ما هنالك، المرأة القادرة على اتخاذ زمام المبادرة لابدّ أن تكون حرّة، وهذا لا يعني أبداً أنها متحررة في لباسها أو أنها تقود سيارة أو ترتاد المقاهي ورفيقاتها، هذا في الحقيقة مفهومٌ منقوص مجتزأ شوّه المفهوم الحقيقي لتحررها وتسبب في غرق وانغماس أكبر في المشكلة، المرأة الحرة هي القادرة على اتخاذ القرار الصعب في الظروف الصعبة وإن كانت عاجزة عن ذلك، بفعل المجتمع والمنظومة التربوية طبعاً، فهي غير حرة حتى لو كانت تسير في الشارع بلباس البحر، وكم من محجبة أو منقبة صاحبة قرار في محيطها العائلي أو المهني أو الوظيفيّ، تحرر المرأة والذي يمكنها بالتالي من الاضطلاع بالمهام الصعبة في غياب الرجل يبدأ بنزع نقاب العقل وحجاب الفكر، المجتمعات الشرقية عموماً تربي المرأة على أنها ظل وأنها تابع ما من داعٍ لاتخاذها القرارات أو حتى التفكير في ذلك لأن هناك من سيقوم حتماً ومسبقاً بالتفكير عنها والقرار عنها، وهذا ممكن أن يكون مقبولاً نسبياً ومؤقتاً في أوقات السلم والهدوء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لكن متى تتبدى حقيقة المشكلة؟ حين يختل ذاك الهدوء سواء بأزمة اقتصادية تتعرض لها عائلتها أو بعارض صحي أو وفاة للمعيل أو في ظل الحروب، مثالنا، وهنا تجد المرأة نفسها وجهاً لوجه مع الكارثة.
أقول بصدق إن الحرب السورية كشفت على مدى الأعوام الثمانية جوهر وكنه المرأة السورية وكان ذلك مدهشاً، فلم تستسلم نساء سورية للكارثة ولم يقفن عند حدود تشخيص المشكلة وإنما بدأنَ يبحثن عن حلول وعملنَ بكدّ، لم تكن المرأة السورية ضعيفة في وجه الحرب وتبعاتها، وأشير إلى أن ضعف المرأة نتيجة وليس سبباً، المرأة لا يمكن أن تكون إلا قوية، والضعف ليس مكوّناً ميتافيزيقياً يهبط على المرأة من علٍ وإنما هو حصيلة تاريخية وثمرة من ثمار المنظومة الاجتماعية والتربوية المليئة بالأخطاء، أما التشاؤم فذلك أني لا أرى تغييراً حقيقياً جدياً أصاب البنية القضائية والتركيبة الاجتماعية السورية بما يضمن حقوق المرأة أكثر من ذي قبل، لكني ربما أجد في الحرب تسويغاً لذلك التأخر في خطوة هامة كهذه اقتداء بدولٍ عربية بدأت تنصف المرأة، وآمل أن تتخذ الجهات المسؤولة خطوات تخدم المرأة السورية التي عانت قبل الحرب ومازالت تعاني وإلا فلن تقوم لمجتمعاتنا قائمة.
* من وحي إيميسا، قراءة في الروح (ربما من الصعب تحديد أولئك الذين باعوا الوطن لكن من دفع الثمن معروف لا يمكن أن تخطئه البصيرة)، حين يضحي من الصعوبة بمكان تحديد من باع الوطن فهذا يعني بالضرورة اختلاف أو تخلخل المعايير الوطنية التي تحدد علاقة الإنسان بوطنه هذه المعايير كنا نعتقد في السابق أنها ثوابت من ثوابت الكون يختل باختلال أحدها، ما هو التغير الذي طرأ على هذه المعايير الوطنية من وجهة نظرك، وكيف يمكن للبصيرة وهي البصيرة أن تدرك من دفع الثمن وتعجز عن تحديد من باع الوطن؟ هل أدى تخلخل المعايير الى تخلخل في البصيرة ذاتها؟ وما هو المعيار الوطني الذي يجب أن يبقى ثابتاً لا يتغير مهما اشتدت الوطأة؟
** سأقول بكل وضوح وبكل بساطة: حين يؤمن كل سوري أنه يدافع عن وجوده ضد أي وجود آخر يتهدده سيمضي دون تزحزح أو انزياح عن ذاك الخط الواضح الثابت، متى يبيع أحدهم الوطن؟ حين يبيع قضيته الأساسة وهي قضية الوجود والهوية، حين يكون الدافع للدفاع عن الوطن مصلحة شخصية بحتة، أو حين يكون الدفاع عن الوطن من أجل اتجاه معين أو فئة أو دين أو حزب أو طائفة أو قومية، لابد أن تأتي لحظة يفقد فيها هذا الحافز صلاحيته، أما حين يكون الدافع والحافز هو الوجود لا يمكن أن تسقط قضية الوطن لأن الوطن هو وجودنا وهذا هو الثابت، أما الترنّح الوطني إن صح التعبير يحدث حين تسيطر معادلات أخرى على قضية الوجود، المشكلة التي ستواجه كل من باع الوطن أنه منذ تلك اللحظة لن يكون قادراً على أن يبتاع نفسه فخسارته كبيرة جداً ولا عوض عنها.
* (الوطن مفهوم بسيط ومعقد جداً ثمين بريء، نقي عصي على التعريف إنه السهل الممتنع يسكن تفاصيل الحياة بأكملها ابتداءً من كوب الشاي الذي تصنعه الأمهات لأبنائهن وانتهاءً بقلعة حلب وجبل قاسيون)، ينقلنا وحي إيميسا من الوطن المؤطر ضمن القداسة والطوباوية المثالية التي جعلت الوطنية السلفية إن جاز الوصف تعتبره أحد أهم الأسماء التي علمها الله لآدم إلى مفهوم الوطن، البسيط المعقد، إلى مسافة تمتد بين كوب شاي تعده الأم وجبل قاسيون، هل لكِ أن تفكي لنا شيفرة التضارب الروحي التي نقّلت قلمك بين بسيط المفهوم ومعقده؟ هل لنا أن نشاركك رحلة الانتماء بين كوب الشاي وجبل قاسيون؟ ماهي المحطات التي سنمر بها أثناء الرحلة؟
** الوطن نعم هو ذاك السهل الممتنع حقاً، تعريفه شاق وصعب ومعقد بقدر ما هو بسيط، لدينا في العالم ستة مليارات نسمة ولو أجرينا استفتاء حول الوطن لوجدنا ستة مليارات تعريف للوطن، فالوطن كما الحبّ، كما الله، كما السعادة، كلٌّ يراه حسب ما يعتقد وكيف يشاء ومن منظوره، تحضرني الآن مقولة ألمانية Heimat ist Heimat وتعني بالعربية: الوطن هو الوطن، ربما تبدو عبارة سطحية للوهلة الأولى لكنها فعلاً عميقة ومعبرة، فالوطن هو الوطن لا يشبهه شيءٌ ولا يشبهُ شيئاً.
قلت في روايتي (الوطن هو رائحة قميص أبي، وهو سجادة أمي) أؤمن بتلك التفاصيل التي تكوّن لوحةً فسيفسائية تسمى الوطن، الوطن يبدأ فعلاً بكوب الشاي وإبريق الشاي الذي يعتبر رمزاً للمة العائلة في سورية، وينتهي بشموخ قاسيون الذي علمنا الصمود رغم الرياح العاتية ورغم أقسى الظروف، جربت أن أبتعد عن الوطن خلال سنيّ دراستي في ألمانيا وأدركت كم نحن بحاجة لفهم أوطاننا عن بعد، كم سنحبها أكثر وكم سنتعلق بها أكثر، كم سنلوم أنفسنا على تقصيرنا بحقها، الحنين أمر خانق لشدة قسوته، المرء خارج وطنه كالسمكة خارج الماء تماماً، فالوطن مكان وذاكرة هذا المكان، لماذا نشعر بالحنين حين نبتعد عن أوطاننا لأن ذاكرة المكان تنبعث فجأة من اللاشعور إلى حيز الشعور فتصحو معها حواس معينة تثيرها مثيرات خارجية لا ننتبه إليها أحياناً، رائحة عطر من نحب مثلاً، رائحة حساء الأمهات، أنغام أغنية معينة ارتبطت في ذاكرتنا بحدث ما، الوطن هو كل ذلك معاً، هو ذلك التراكم الممتد من طفولتنا وحتى اللحظة التي نتحدث فيها عن الوطن، الوطن ليس جغرافيا فقط وليس تاريخاً فقط ولا أناس نحبهم أو مشاعر نفتقدها أو أماكن نحب زيارتها هو كل ذلك معاً في وحدة مركبة لا تنفصم عراها.
* (كنت أخاف لصاً واحداً في الليل، صاروا اليوم لصوصاً في وضح النهار، ومازالت أمي تطمئنني)، الإنسان الأم الوطن هل يتسع مفهوم الأمومة في رأيك ليحتوي الإنسان والوطن؟ أم أنها ثلاثية الأقانيم المنفصلة المتصلة التامة المتكاملة المجزأة الواحدة؟ كيف ينظر الإنسان داخل كاتبة إيميسا إلى علاقته مع مفهومي الأمومة والوطن؟
** رغم تحفظي الشديد حين أقول كلمة (بالمطلق) لكني هنا أقولها وبلا تردد: بالمطلق الأمومة هي المدرسة الأولى وهي الوطن الأول وهي التي تربي الإنسان، وأقول الأمومة لا الوالدة فليست كل من ولدت أطفالاً تصلح لأن تكون أمّاً حقيقية، لا يمكنني أن أتخيل الأم خارج الوطن، الأمومة ليست فعلاً بيولوجياً أو ميكانيكياً، الأمومة رسالة مقدسة بل ربما من أقدس الرسالات الروحية انظري كم هي نبيّ! كم هي قادرة على الاستشراف، حين تحذّر أبناءها وحين تطمئنهم، انظري كم هي مقدسة في عيونهم! تخيلي حجم الكارثة حين تخون الأم رسالتها وحين لا تكون تلك التي ينبغي أن تكون؟! أعتقد لا داعي للخيال لأننا لمسنا ذلك واقعياً ورأينا بأم الأعين خلال سنيّ الحرب ثمرة الأمومة المنقوصة أو المختلة، الأم وطن الأبناء، وللوطن أم هي محبة أبنائه التي تحرسه على الدوام من هنا يتكرس الثالوث المقدس: أم، إنسان، وطن، يقول مكسيم غوركي: (لدى الأم ما يكفي من الدموع لكل شيء، لكل شيء). والوطن أمّ تبكي بحرقة عند خيانة الأبناء وعقوقهم لها.
* (لم تكن شرقيته كافية ليشيح بوجهه بعيداً عن وجه راق له أن يطيل التفرس فيه)، الشخصية الشرقية مثار جدل واسع وميدان كبير لتعدد وجهات النظر ومادة دسمة للنقد والتحليل حمالة للأوجه مرتبطة بالفكر الديني والرومنسية التاريخية والإرث المتراكم بما له وما عليه، كيف توصفين الشخصية الشرقية بواقعها الحالي وكيف يتم الارتقاء بهذه الشخصية مع الاحتفاظ بهويتها وخصوصيتها من وجهة نظرك؟
** يقول الصادق النيهوم: (الحضارة لا يمثلها الشرق أو الغرب وإنما الحضارة يمثلها الإنسان القادر على تذوق الجمال أينما رآه) والحضارات الشرقية القديمة معروفة بصناعتها للفن والجمال، وبرأيي أن الشرق لن يرتقيَ إلا إذا توقف عن أن يسلك مفكروه منهج المقارنة بالغرب، والأمر الثاني أن تشهد المنظمة القانونية نهضة حقيقية وجذرية فالقانون سر تقدم المجتمعات، فالشرقي نتاج بيئته، لا يوجد هناك شرق بالمعنى الخرافي الثابت المطلق وليس هنالك ذهنية شرقية هبطت من السماء على أصحابها الشرقيين وإنما هي ذهنية صنعتها الظروف، الأمر متعلق بعناصر البيئة الشرقية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وقانونياً، الشرقي خاضع لمنظومة أعراف وعادات وتقاليد وقوانين مرتبطة بجغرافيا تدعى الشرق ولد ووجد نفسه فيها أكسبته خصوصية معينة لا تتواجد في الغربي والعكس بالعكس، الذهنية الشرقية ذهنية متقدة لماحة والتفافية لأنها تضطر للتحايل على الظروف الصعبة تماماً كالمرأة التي تتسم بالالتفاف أكثر من الرجل، الأضعف مضطر دوماً لممارسة طرق غير مباشرة لتحصيل أهدافه، لكن هذا يجب ألا يتحول إلى قاعدة، مشكلتنا أننا اضطررنا أن نمشي في الاتجاه الخاطئ بسبب خلل في البنية الثقافية والقضائية والاجتماعية وكلما خطونا في الاتجاه الخاطئ مرة كان علينا أن ندفع الثمن مرتين لأن الخطأ هدم، وإعادة البناء أصعب بمرات من البناء، والحقيقة أنّ الاعتقاد بتفوق الغرب وتدني الشرق ناجم مقولة كيبلينغ الشاعر البريطاني: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) المقولة التي تناغمت مع الفكر الاستشراقي المكرس للشرخ الحضاري والهوة الثقافية بين الشرق والغرب، فمن قال أنهما يجب أن يلتقيا؟ّ ولماذا يلتقيان؟
* (جروحنا من البعض تحولت في أيدينا إلى سكاكين نجرح بها آخرين لا ذنب لهم سوى أن الأقدار وضعتهم في طريقنا فنحاسبهم بذنوب غيرهم، الذين قتلونا فعلوها مرتين، مرة حين قتلونا ومرة حين حولونا إلى قتلة)، دائماً في الحرب هنالك من يجرح وغالباً ما يتحول الجرح إلى سكين في يد المجروح حتى المشرط الجراحي تحول في يد بعض الأطباء إلى سكين يجزون بها الأعضاء لتُصار إلى سوق البشر، هل الحرب هي من عرتنا أم أننا كنا في الأصل عراة والحرب عصفت بورقة التين الوحيدة عن العورة؟
** دعيني أشير إلى نقطة غاية في الأهمية من وجهة نظري ألا وهي أن خطورة السلاح الذي يمتلكه الفرد (سكين، خنجر، قنبلة) تساوي في الأهمية العلم والفكر والفلسفة والثقافة وكم من مفكر وفيلسوف استخدم سلاحه (فكره) ضد وطنه وفي المكان والموضع غير الصحيح والعارف أخطر على وطنه من الجاهل برأيي لأنه قادر على سوق الأدلة جميعها التي تثبت وجهة نظرة وتخطئ بل تحارب كل رأي لا يتوافق معه لذلك أقول أن الحل ليس في أن نقوم بسحب السكين من يد الأخرق لأنه ربما يبحث عن أخرى جديدة، وحينها ستكون حربه ضدي أكبر وأشد شراسة، وإنما الحل يكون بتحصين عقله ضد فكرة القتل والغدر والطعن ومفهوم الرفض وإسقاط الآخر المختلف عنه، يكون هذا التحصين بملء العقل احترازيا بما هو نيّر قبل تركه للفراغ الذي يجعله قابلا للامتلاء بأفكار هدامة، القتل منهج والتكفير منهج لا موضوع والقتل بالكلمة أشد ألماً وإيذاء بالوطن من القتل الذي يسيل الدماء لأن هذا يسيل محتوى الحضارات ثم يبخرها هباء منثوراً.
والحرب فعلاً محكّ حقيقي عليه تتوضح طبائع الأشخاص، وكأن السلم يكوّن غشاوةً على البصيرة فتأتي الحرب لتزيل تلك الغشاوة وتزيح الستار عن الكنه الحقيقي للمفاهيم والأشخاص، لن أقول أن المجرم مجرمٌ بالفطرة وأن الوطنيّ الجيّد ولدَ من رحم أمه وطنياً لكنه بلا شك ولد من رحم تربية تكرس المبادئ التي تعتبر خطوطاً حمراء لا مساس بها، البناء الشخصي الجيد ليس محضاً فطرياً وإنما التعويل الأكبر يكون على دور التربية ولذلك كانت إشارتي إلى أهمية دور الأم، الأم الجيدة ستنشئ بالضرورة أبناء جيدين وطنيين رغم وجود استثناءات وانزياحات فهذا من شأن وجودنا كبشر، لكن لاشك هناك فرق بين تربية تجعل الفرد قادراً على التغلب على الصعوبات ومقاومة أية اغراءات من أي نوع وبين تربية هلامية مهزوزة تعلم الفرد الرمادية والانزياح لمصالحة بحيث تهتز قناعاته ومبادئه عند أول صدمة، لذلك كانت المعرفة هي الضمانة الوحيدة لتحصين الأفراد ضد الاندفاعات الهوجاء المدمرة.
أخيراً
استطاعت كاتبة (إيميسا) من خلال روايتها أن تنتقل بالقارئ الذي يعيش زمن الحرب وأتون دخانها وبارودها إلى أتون تضارباتها النفسية والروحية، وظلال انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية بأسلوب سلس خال من التصنع والابتذال بعيد عن التحليل السياسي وتعقيداته ليكون الوطن في النهاية محور المأساة والدريئة التي تناوشها رصاص الحزن والفواجع، وليكون الانتماء إلى الوطن هو المعيار الأوحد الذي يتوجب على أبنائه اتخاذه من أجل الخلاص من ضيق الدمار والعذاب إلى فرجة العمار والطمأنينة.
في فوضى الحرب ومآسيها نحتاج إلى إبداع يرتب الأحزان على رفوف الروح ويستنبط للأمل رفوفاً أخرى تملأ فراغ المستقبل القادم، الروائية هلا علي أجادت الترتيب والاستنباط في روايتها إيميسا التي أغنت رفوف الأدب الواعد في مكتبة العقل العربي.
شروق ديب ضاهر