العـــــدد 9426
الإثنـــــين 16 أيلــــول 2019
ساقني خبر مفاجئ لطارئ صحيّ مؤلم أصيبت به إحدى صديقاتي المقرّبات جداً، مما دعاني لأن أقلب وأغير جدول مواعيدي اليومية، همت سريعاً متأملة وسيلة نقل توصلني إلى طرطوس حيث تسكن صديقتي، أسرعت إلى شركات النقل في اللاذقية فلم أوفّق بموعد قريب يحلّ لهفتي، فما كان مني إلاّ أن تذكرت شركة الخطوط الحديدية وتشغيلها لقطارات ضمن المحافظات، وكان الأمل الوحيد المتبقي لي، سابقت الدقائق وتمنيت أن تغيب المسافة لأصل إلى محطة القطار وأحصل على تذكرة أحلّ بها مشكلة قلقي ولهفتي، خاصة أن توقيت خروجه من اللاذقية يناسبني تماماً، أخذت التذكرة فرحة بانتصار الزمن على المسافة وأمنيتي بدوران عقارب الساعة، تركت كوة التذاكر ونزلت عبر السلالم لآخذ مكاني في القطار، فكان العجب الذي لفحني وأنساني إلى أين أنا ذاهبة، قطار يأكله الصدأ، يتكئ على سكة ما زالت تقاوم ما مرّ عليها، لا لون لهذا القطار إلاّ شحوب مرير من أتربة وما عصرته الأيام على الحديد الصدئ مع ما قاوم من هواء وأنفاس من رافقوه في سفراتهم، غلبت السؤال على نفسي وقلت ربما هو هكذا من الخارج لكنه من الداخل سيكون أفضل، دخلت وأنا مذهولة أنتقل بين المقطورات أبحث عن الدرجة الأولى علّي أنعم بمكان يليق بإنسانيتي ولو قليلاً، لم أشاهد مقطورة الدرجة الأولى بل رأيت صفائح من تنك ومقاعد لا تصلح لنقل أي كائن!، أصابتني الدهشة والحزن والسؤال الذي طرق رأسي بقوة موجعاً وخاصة وأنا أرى أن من يملؤون المكان هم من طلاب الجامعة والموظفون العائدون وبعض آخر له أعماله والتزاماته التي اضطرته للسفر وأنا والجميع من الطبقة العاملة كما نوصّف نحن.
جلست في مقعدي أترك لخالقي شأن حالتي هذه ، لكن الذي لم يتركني وما برح يرتاد على عيني وذهني كيف لنا أن نصل إلى هذا الشكل، ويكون هذا الهيكل المهترئ في (خدمتنا)!، سؤال ملحّ يعود بالزمن إلى الوراء عندما كانت دمشق تحتفل بأول ترام في العالم، أي قبل بريطانيا ودول العالم المتحضر وقتها، هاتان الصورتان ما برحتا خيالي على طول الطريق مع الفارق الزمني بينهما، فكيف إذا كنا في عصرنا هذا، عصر التكنولوجيا والاتصال والناس جميعها تملأ عينيها كل ثانية صورة على هواتفها المحمولة عن كل شبر من أرضنا التي نعيش عليها، وصارت تعرف الفروق الإنسانية وجميع خصائصها وسماتها، كيف يمكن لطالب جامعي وهو أمل المستقبل في هذا الوطن أن يقضي سنوات دراسته الجامعية متنقلاً مع هذا الحطام المتحرك الذي لا يترك في الجسد والروح إلاّ تلوث بصري وسمعي، وكيف يمكن لهذا الطالب الذي يعاني من هذه المسافة ومشاقها في سبيل العلم والبناء أن يقبع عبر سنوات دراسته بدون ذاكرة أو حلم في هذا المكان الذي يمحو كل إحساس، أو أن هذا الموظف أو العامل الذي أنهى دوام يومه المتعب أن يعود لأسرته محملاً بمزيد من المتاعب، من هذه المقطورات المتعبة أكثر منه، أو تلك المقاعد التي هدّتها الهموم وزاد عليها غبار وتراكم الأيام والسنين ولم تنظّف منذ عقود!!! هذا إضافة إلى أنها مقاعد وسخة لدرجة أن ملمس قماشها يدلّ على أنها لم تنعم بالماء والصابون أبداً، ناهيك عن الشبابيك وقذارتها التي توحي بالدهر والعوامل الجوية كلها التي مرت على هذا الزجاج الذي لا يعرف معنى النظافة أو لامس الماء إلا من المطر فقط بالتأكيد، يضاف إلى هذا درجات الحرارة المرتفعة داخل المقطورات، فالحرارة المرتفعة والرطوبة الزائدة اضطرت غالبية المسافرين للتزاحم والوقوف على بعض الشبابيك المكسورة طلباً لبعض الهواء الطبيعي في زحمة هذا الألم، عادت بي الذاكرة إلى سنوات مضت عندما كنت طالبة وأسافر إلى جامعتي في حلب، عندما كان القطار معلماً سياحياً بنظافته ولباس موظفيه ومقصفه الجميل وأناقة الساعات التي تمر على تلك السكة الحديدية، حيث كانت الرحلة أشبه برحلة ترفيهية، كنت أتمناها ألاّ تنتهي، وعندما يوقف القطار عجلاته لا يترك إلا ذاكرة جميلة لطرق في بلدي الحبيب، رميت عليها عواطفي وآمالي وأشجاني مع اختلاط الصور بين ذاك الماضي وهذا الوضع اليوم، كم يثير فيّ ذاكرة ملحة في سؤالها، لِمَ هذا الفكر والمنطق الذي لا يحتاج إلى مال أو خطة أو ميزانية ضخمة لتسييرها فبعض الصيانة والتنجيد والنظافة لا يكلف شيئاً يذكر بالنسبة للمبالغ التي تهدرها هنا وهناك…
أحتاج أن أقتنع أو يقنعني أحدٌ هل هي ثقافتنا حقاً أم أن هناك من يفرض ثقافة مخيفة موبوءة بالتخلف والجشع والألم رغم الاهتزاز الكبير للقطار ووقوفه في محطاته المتعددة الذي يشبه لحظة وصول الطائرة إلى الأرض لم ألحظ أنني وصلت إلى طرطوس حتى نبهتني من كانت بجانبي إلى أن أغادر، لا أعرف حجم التساؤل والحزن الذي خزّن بداخلي، أيهما أكبر إصابة صديقتي الذاهبة إليها المصابة بالمرض الخبيث أم كامل الجسد السوري بمعاناته.
سلمى حلوم