العدد: 9289
11-2-2019
لأيام ثلاثة ومشقيتا ببيوتها مغمضة العينين وسط ظلام دامس بلا كهرباء، لم تر فيها نور مصباح ولا وهج فتيل بطارية شحن غير ما يشبه وهج نيزك أو شهب نزل من أفق السماء وانكب تغشاه أمنية ببصيص أمل و(بصبوص زمن الأجداد) وقنديل زيت، ليأتي وهج الكهرباء كل حين وقت ساعة التقنين وسرعان ما ينطفئ بحجة تعلو بوتيرة الكيلو فولط والأمبير إنها الرياح والأمطار التي جاءت على الأسلاك خراباً وتقتيلاً، ورغم كل النداءات لطوارئ الكهرباء إلا أنه لا رد ولا جواب وقد انسلت الكهرباء من جسد القرية كما الروح لتكون في ثبات حيث شلت حركتها الاقتصادية والتجارية وتوقفت عجلتها عند ناسها تحت وطأة ليل طال..
بتنا نخاف هبوط ماء السماء، ونركز أنظارنا على اهتزاز الأشجار وتمايل أغصانها مع رقصة شتاء تطرب لها الأبدان ويدق لها الفؤاد، فنرفع أيدينا ابتهالاً ودعاء أن يخفف عنا الله شدة رياح السماء، ويوقف لهوها الذي ينزل علينا بلاء وجوراً وقهراً، فلم نعد نرى الضوء غير في النهار، والحمد لله أن البربارة مرت لينقشع عنا الظلام وسواد الليل بضع ساعة..
ترى الناس عند ساعات الصباح الأولى في نشاط، يستعجلون الذهاب لوظائفهم، والجميع يبدو على وجوههم المنتفخة (عيونهم شبعانة نوم) الحيوية والبهاء، حيث أشار أبو أيهم أنه لم يتأخر على دوامه منذ ثلاثة أيام بل يسبق الجميع وهو أول الحاضرين والمسجلين في دفاتر الدوام، ويعود للبيت والأولاد يستعجلون في درسهم لأنه ما إن يأتي المساء حتى تنسدل ستائره السوداء، فلا كهرباء ولا حتى وهج قمر أو نجوم حيث السماء ملبدة بالغيوم، فيكون النوم أفضل دواء واليوم نعيش على نصائح الأطباء (نام بكير وفيق بكير وشوف الصحة كيف بتصير) شكراً يا مديرية الكهرباء (الخايفة على صحتنا من كتر السهر على النت والفيسبوك)
أم رياض تخرج من المركز الصحي وهي تتمتم ببعض الكلمات، ( ما في تحاليل سكر ولا غيرها .. ما في كهرباء) ولا تقدر أن تذهب إلى المدينة فهي متعبة، حتى أن الغسيل لم يخرج من غسالتها ولم ينتهي غسله منذ ثلاثة أيام، وهو ما دفعها في اليوم الرابع أن تخرجه وقد تزكم برائحة كريهة، لتغسله وتنشره في الهواء كما أشارت لنا.
لا خبز ولا كهرباء.. جارنا استيقظ اليوم متأخراً فقال: الفرن معطل فالعجين يحتاج صنعه (لعجانة) تنتعش يداها وقوى أطرافها الآلية بالكهرباء التي تغذيها، واليوم تعطلت الكهرباء وبقي الفرن ليومين على هذه الحال إلا أنه لا مفر له من العمل وصنع الخبز لأهل القرية، وكان أن شغل أصحابه المولدة في اليوم الثالث، لقد باتت عصب عيشنا وخبزنا اليومي، حتى أن الأولاد ينامون من أول الليل ولم يعودوا يجلسون معنا ولو كانوا مرغمين تحت وطأة الواتس والنت، لهذا نذهب أنا وزوجتي لنسهر ونعيد ذكرياتنا وضجيج تلك الأيام والسهرات العائلية حول مدفأة حطب الشتاء وسط الأصحاب والأقرباء، التي فقدناها في هذه الأيام الموجعة التي باعدتنا في عجقة سيرها وركب أشغالنا.
آية طالبة بكالوريا كما رفاقها جميعاً عانوا من انطفاء الكهرباء لأيام، وهو ما أتى عليهم بالكسل وعدم قدرتهم على اللحاق بركب رفاقهم بالدراسة، فقد اقتنصت منهم الكهرباء ساعات الدرس والسهر وهم الذين يسعون جاهدين للنجاح والتفوق ونيل أعلى الدرجات فكيف لهم أن يسابقوا طلاب المدينة وغيرهم من القرى المجاورة والتي يرون مصابيحها متلألئة، وهم لم يعد عندهم نور من وهج بطارية خلص شحنها، ليبقوا على وهج محرقة حطب تأبط مدفأة بلا زيت أو وقود، فانظروا .. ألا يكفيهم ما يعانونه من الدروس الخصوصية وجبروتها؟ لقد طالت ساعات سواد الليل عليهم ويسألوننا بعض النور والكهرباء والبصيرة والبصر وهم يعيشون حالة نفسية عصيبة من رهبة وخوف الامتحان، فهل من يخفف عنهم ولا يزيدنهم حسرة وقلقاً.
ليس من مكان للبيع ولا يمكنك شراء أي حاجة تنقصك وتذكرتها عند المساء وقد خيم الليل وأسدل ظلامه بلا مصابيح السماء..
أصحاب الدكاكين وبائعو اللحمة ومطاعم الترويقة (حمص وفتة) الذين وجدوا الكثير من العوائق والمشاكل في عملهم، والتي شكلت الكهرباء عصب تجارتهم، فهم يغلقون دكاكينهم باكراً وليس كمثل أيام خلت، حيث أن الظلام دامس والبطاريات نفذ شعاعها ولم يكن بالإمكان شحنها بغياب الكهرباء، وهو ما يضيف عليهم بعض التبعات من محولات ومحركات بنزين ومازوت لتعمل بعض أوقات الشدة وضغوط الطلبات، فتنهال عليهم كما السياط وخصوصاً أنهم يعانون من قلة الغاز والمازوت فكيف لهم أن يسترزقوا والرزق عنهم جفاء وقحط، وسط جور الغلاء وخواء بطون حقائب الناس، ومحرقة نار الغاز والمازوت، فقالوا مناشدين: هل لنا من منقذ ومنفذ غير مديرية الكهرباء؟ نسألها ونشكو لها ونرفع لها الأيادي والقبعات لنستجير بها علها تسمعنا ونكون لها أصحاب.
جاءت الكهرباء ظهر يوم الخميس، عندما قصد السيد المحافظ مشقيتا لأجل التنمية الريفية فيها، وكان في حضوره أن ننعم بشعاع كهربائي غطى ساعات النهار، إلا بعض ساعة بين وقت وآخر, لتنقشع العتمة عن حياتنا ويعود النشاط والحركة داخل بيوتنا وخارجها، لا أصوات أو جلبة قتال فالأولاد بالنت منشغلون، والزوجة تركض إلى اليمين واليسار لتشغل الغسالة والبراد والجلاية والفرن وبطارية الشحن والمكواة والسخان ودينامو الماء ومكنسة الكهرباء ليخرج الزوج وقد انفرجت أساريره إلى جيرانه في الدكان, وينعم الجميع براحة البال وشكراً يا (السيد المحافظ).
هدى سلوم