العدد: 9420
الأحد-8-9-2019
الثقافة غذاء الروح للإنسان كما رحيق الورد غذاء للنحل، وهي التي تميز البشر عن غيرهم من الكائنات الحية التي تعيش على هذه المعمورة وتجعلهم يتذوقون بهاء هذا العالم وما يحفل به من قيم الحق والخير والجمال، مجتمع يقرأ- مجتمع يبني، والقراءة وقضاء الوقت الممتع مع خير جليس استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة الحكم والنقد لدى الفرد وتساهم في تشكيل الذهن والرؤية، وتراكمية فعل القراءة يشكل الموقف والرأي ويتسلل خلسة إلى مناطق تشكيل الوعي، لتبقى المعلومات المختزنة في الذاكرة حية حاضرة في الذهن سهلة الاسترجاع، وهل أجمل من قراءة جواب برنارد شو على سؤال بسيط لإحدى السيدات، وكان ذا ميول اشتراكية، عن الرأسمالية، فأشار إلى صلعته ولحيته وقال بإيجاز شديد: ( غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع).
رغم انتشار ثقافة المطالعة وانتشار المعلومة عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن شغف القراءة ونكهة الورق ورائحة الحبر بقيت جذابة للقارئ، تأخذ مجراها في النفس وتصب في العقل وكأنها دماء ذكية في العروق، وهي ضرورة مجتمعية ووطنية وحاجة إنسانية كغيرها من حاجات الإنسان، تنهض به اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وقدرتها على التطوير والتغيير وجعله ممكناً وأفضل، وهي العملية التي يستطيع الفرد عن طريقها اكتساب الصفات الحضارية لجماعة أخرى من خلال الاطلاع، والتفاعل وتدفعنا إلى تأمل الحياة وإعادة النظر في الكثير من الأمور التي تدور حولنا ورسم الطريق باتجاه المستقبل الآمن عوضاً عن حرق الوقت في الأحاديث والنقاشات الجوفاء، فكم هو الفارق كبير بين مجتمعنا وغيره من المجتمعات في مسألة استغلال الوقت وتسخيره لصالح المطالعة والقراءة التي تأخذنا إلى عوالم مختلفة وأمكنة لم نزورها من قبل؟
لا أحد في هذا العالم يظن أن القراءة قد انتهت إلا العرب فهم مشغولون بكل شيء إلا الفكر والعلم والمطالعة ، حيث تصنف الشعوب العربية مع الشعوب التي لا تقرأ، وهي جريمة بحق الأمة العربية التي أهدت العالم الحضارة والعلم وأغنت مكتباتهم بالكنوز الحضارية والمعرفية التي ينهلون منها الآن، والقارئ العربي ملول مشوش خائف من كل شيء يحاصره الشك كأفعى تلتف على غصن، يتفاعل مع النص كصندوق للفرجة وليس كمساحة للاطلاع والاستفادة، يعجز عن إشباع حاجته وتحقيق مبتغاه وكشف قصد المؤلف الذي ترفرف روحه بين كلماته وتجرنا للتفكير بما يفكر فيه ويعبر عنه، فيتهم النص بالغموض والسطحية والخواء، ففي روايات ماركيز تبدأ الغواية بلحظة عادية من لحظات حياته ثم يمسك بتلابيب القارئ بطريقة غير عادية ليقرأ ما كتبه حتى اللحظة الأخيرة، الناقد هارولد بلوم وصف عملية القراءة بالمتعة الصعبة التي تجدد قدرتنا على الخيال والحلم، لأن قراءة الكتب العظيمة قادرة على تقديم النشوة الجمالية قبل أي شيء آخر.
استطاع الأعداء التسلل إلينا من جهلنا وتجاهلنا للقراءة، وممارسة القراءة المغلوطة أو المقلوبة تساهم في تجدد نكسات الوضع العربي حيث فتح الأعداء ثغرة في الجدار العربي وتسللوا منها لنشر القصص والأفكار الدينية والأكل مع الحوريات وزيارة العالم الآخر عبر العمليات الانتحارية، وهل أجمل من قول الأديب الفرنسي جان بول سارتر: (الكلمات مسدسات محشوة بالرصاص)!
بفعل سنوات الحرب الإرهابية الطويلة أصاب العطش المعرفي والقحط الثقافي نفوس ووجدان الكثيرين إضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية بين شعوب الأمة العربية وخاصة الإناث وتردي الوضع المعيشي والاقتصادي وانتشار الفقر في أغلب الدول العربية ما يجعل مسألة اقتناء الكتب والقراءة لا تشكل أولوية على لقمة الخبز، ناهيك عن الميل الفطري للقراءة الدينية كمفهوم تعبّدي وليس ثقافياً.
المعركة التي تتجرع مرارتها الآن هي حرب ثقافية بالدرجة الأولى تستهدف تاريخنا وتراثنا وهويتنا وأرضنا وثرواتنا، علينا الارتقاء بالعقول للخروج من نفق الظلمة والتشجيع على القراءة لتحصين الأجيال ضد التشوية الذي يمارسه الغرب والإرهاب، وتوسيع هامش القراءة ليشمل جميع القضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية، فالقراءة تنتج وعياً وسلوكاً وموقفاً وانتماء يشكل عاملاً داعماً في عملية البناء الإنساني والاجتماعي والإعمار والتنمية الشاملة.
نعمان إبراهيم حميشة