الوحدة – رنا عمران
في السياسة، هناك لحظات لا تُقاس بحجم الاتفاقيات الموقعة، بل بوزن الرسائل التي تُقال في العلن وما يُلمّح به في الكواليس، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الأمريكية واشنطن تُعد واحدة من تلك اللحظات.
أبرز ما في الزيارة حتى الآن لم يكن مشهداً رسمياُ مع نظير أمريكي، بل كان لقاءً استثنائياً مع ديفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، وأحد أكثر الأسماء تأثيراً في صياغة السياسات الأمنية الأمريكية لعقود.
وفي لحظة لافتة، قال بتريوس للرئيس الشرع: “لديك الكثير من المعجبين، وأنا واحد منهم… ونحن نخاف عليك.”
ليست هذه مجرد مجاملة دبلوماسية. بل اعتراف ضمني من قلب المؤسسة الأمنية الأمريكية بـالتحول اللافت في شخصية الدولة السورية اليوم، وقيادتها التي باتت تُقرأ بعيون مختلفة، حتى من خصوم الأمس.
زيارة الشرع إلى واشنطن لم تكن زيارة رمزية، رغم أنها تحمل رمزية عالية. هي خطوة مدروسة، تعكس تحولاً في الأداء السياسي السوري نحو مزيد من البراغماتية والانفتاح المدروس. فبعد سنوات من العزلة والتصعيد، تقرر دمشق أن تتحدث، لكن من موقع وازن، لا متردد.
سوريا لا تعود إلى الساحة الدولية خجولة، بل تعود وهي تمتلك سردية جديدة، وقيادة تتقن لغة المصالح دون أن تفرّط بالثوابت.
اللقاء مع بتريوس، وما سبقه من لقاءات مع ممثلين عن الجالية السورية، ومراكز بحثية، وقنوات اتصال غير رسمية، كلها تشير إلى إعادة رسم خطوط التواصل بين دمشق وواشنطن – لا بوهم التطبيع السريع، بل بإرادة الاعتراف المتبادل بالوجود والتأثير.
الرئيس الشرع، في حديثه إلى الجالية، بدا هادئاً وواضحاً، وقال بعبارات مباشرة إن السوريين في الخارج ليسوا مجرد مهاجرين، بل شركاء حقيقيون في مستقبل البلاد.
الرسالة كانت واضحة: “أنتم سفراء سوريا حيث أنتم، وأنتم جزء من مشروعها الوطني، العلمي، والاقتصادي، والثقافي.”
المثير أن الجالية لم تُعامِل الزيارة كمشهد سياسي، بل استقبلتها كعودة رمزية للوطن إلى أبنائه، ولأبنائه إلى وطنهم، وسط مشاعر حارة لم تخفِ عمق الارتباط، ولا توق السوريين في المهجر إلى بناء جسر جديد مع الدولة.
الجانب الاقتصادي لم يكن غائباً، بل طُرحت خلال الزيارة أفكار ملموسة لإشراك رؤوس الأموال والخبرات السورية في الخارج في مشاريع تنموية داخل البلاد، في إطار إعادة الإعمار، والتوجه نحو اقتصاد إنتاجي لا ريعي، تشكّل فيه العقول السورية المغتربة قيمة مضافة حقيقية.
كل ما في هذه الزيارة يشير إلى مرحلة سورية جديدة: أكثر ثقة، أكثر نضجاً، وأكثر قدرة على التعامل مع تعقيدات الواقع الدولي.
ولا شك أن كلمات بتريوس “نحن نخاف عليك” تعكس إدراكاً أمريكياً بأن سوريا، بقيادتها الحالية، عادت لاعباً لا يمكن تجاهله، بل ربما يجب التفاهم معه.
تصفح المزيد..