العدد: 9413
الثلاثاء: 27-8-2019
رسائل الاعترافات بين الأدباء والشعراء كثيرة، والأمثلة عليها لا حدود لها، بعضها اعترف بالحبّ وبعضها الآخر بالكره، وأخرى سرّية ما وجدت طريقها إلى العلن إلا بعد وفاة أصحابها، لنكتشف أسراراً دفينة خُبّئت سنواتٍ، ولم يجرؤ أو لم يُرِد أصحابها أن تجد طريقاً لها إلى العامّة، أما ما اكتُشف ونال قسطاً من الشهرة والانتشار فقد أمتع القرّاء وأهل الأدب والثقافة وما يزال، ووجد طريقه إلى قلوبهم وعقولهم، والدليل تهافت القراء والمهتميّن على مطالعة رسائل الاعتراف هذه سواء ما طُبع منها أو ما نُشر إلكترونياً عبر مواقع وشبكات التواصل الاجتماعية.
والمراسلات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا حصر: رسائل جبران خليل جبران لميّ زيادة، وغسّان كنفاني لغادة السّمان، والكبير نزار قبّاني لكوليت خوري وغيرهم الكثير..
وبدأت رسائل جبران إلى مي زيادة ردًّا على رسالتِها الأولى حول رأيها في روايته «الأجنحة المتكسرة»، وبعدها توالى تبادل الرسائل بينهما، لكنّ الجزء الأهمّ والأبرز في رسائل جبران إلى مي زيادة تلك التي تتمحور حول علاقة الحب التي نشأت بينهما على مدار عشرين عاماً دون أن يلتقيا ولو مرةً واحدةً، وجاء في رسالة جبران التي رَدّ فيها على اعتراف مي بحبها له: «تقولين لي أنك تخافين الحب، لماذا تخافين يا صغيرتي، أتخافين نورَ الشمس، أتخافين مدَّ البحر، أتخافين مجيء الربيع، لماذا يا ترى تخافين الحب. أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيكِ، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيءٍ، نحن نريد الكمال، لا تخافي الحب يا ماري -الاسم الحقيقي لمي زيادة-. لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي. علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة».
ومن رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان: «لقد كنت في بدني طوال الوقت، في شفتي، في عيني وفي رأسي، كنت عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود، إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك، وحين أرى منظراً أو أسمع كلمة أو أعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي».
ومن رسائل كوليت خوري إلى نزار قباني نقتطف:
جفّتْ الدموع يا نزار، شربتْها المرحلة حتّى الثمالة. في كل يوم نسمع خبراً مُفْجِعاً عن واحدٍ نعرف.
وفي كل لحظة مصيبة تحلُّ بإنسانٍ عزيز. وفي كل ثانية مواطن ينصبُّ عليهِ ظلم الزمن في الوطن الكبير..
وأخيراً داهمتْك المرحلة أنت بالذات يا نزار.. أنت الشاعر الكبير في الوطن الكبير..
فدخلتْ عقْر دارك وسرقتْ الزنبقة الرائعة في حديقتك.. هذهِ السنبلة الشقراء الحبيبة.. هذهِ القصيدة النادرة التي ما كتبْتها أنت، والتي كانت قادرة أنْ تقِف بمفردِها وبكبرياء إلى جانب كل شِعْرك..
آه يا نزار.. ما عاد لدينا دمعةً نهديها إليك.. رغم أنّ الصدِر ينطبق ويسحق القلب..
لكنّني لن أنساب في حديثي إليك اليوم مع العواطف..
لأنّ العواطف في مثل هذهِ الأحوال الخانقة عاجزة عن أنْ تفتح لنا نافذة على الحياة..
العواطف في مثل هذهِ الأحوال عاجزة إلّا أنْ تجرّنا صوب اليأس..
لهذا السبب،
ولأنّ الوطن الكبير وطننا، ولأنّ المرحلة عمرنا، ولأنك الشاعر الكبير في الوطن الكبير، سأتحدّثُ إليك بالعقل.. والعقل جافّ يا صديقي وقاسٍ لكنّهُ الملجأ الوحيد في الأيّام الصعبة التي ينسحق فيها البشر والعواطف… ويتربّع فيها اليأس على عرش الإغراء.
إذ باح مرسلوها ومستقبلوها بأساريرهم وخلجات قلوبهم وخفقاتها وسكبوا على بياض صفحاتهم أشواقهم وأحزانهم وأفراحهم، وكانت هذه الرسائل وثائق حبّ وعشق لم يكتب لأغلبها الاستمرار والبقاء، لكنها كانت بمثابة صكّ ملكية لقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، تلاطمتها أمواج الغضب حيناً والفرح أحياناً، الحب حيناً والبغض والحقد أحياناً، المواساة والاعتذار القدح والعتب حيناً آخر، فأصبحت بلسماً يداوي جراح من كان به السّقم، وهل بعد الحبّ مرض؟ حنين الكبار وشغف العشّاق ولوعة الملتاع وأَسَرَتهم بين قضبانها وعاثت في فكرهم وعاطفتهم حيناً جوىً وهوىً.
ومع هذه الاعترافات يتساوى الرجل والمرأة أمام الحبّ، فلا كبير ولا صغير هنا، الكل ينصاع راضياً مرضياً له، لا استكبار ولا استعلاء تواضعٌ وامتثال، فأين أدباء وشعراء اليوم من اعترافات الأمس؟
كم جميل لو يمتعنا أصحاب الأقلام الفذة بهكذا مُراسلات؟ وكم نحن بحاجةٍ إلى ذاك العسل المكتوب، يشدّنا بشهده الذي نقطفه من بساتين الغرام والهيام؟ اعترفوا فلا قضاة ولا محاكم ولا جنايات ولا ظالم ولا مظلوم، كلنا أمام الحبّ سواء.
ريم جبيلي