العدد: 9410
الخميس : 22-8-2019
الحداثة تطور وتجديد وقفز خارج المفهومات السائدة، وثقته بالقدرات الخاصة على التنظيم الأخلاقي للنفس والذات، وقدرة على البراعة والخلق وتوظيف العادي ليكون مصدراً للجمال والمضي إلى تخوم معرفية جديدة، وليست بالانفصال عن الواقع والتنظير من برج عاجي بعيد عن المجتمع وواقعه والحياة في عالم افتراضي وتكوين ذات مغايرة.
الحداثة لا تعني التخلي عن الأعراف والتقاليد، وهي دون أصالة وتراث تكون قفزة مجهولة والعواقب في الهواء في تسارع نحو الهاوية، والمبالغة الزائدة في تركيب الصورة يفسدها، يجب علينا تجاوز حالته البلادة والاندفاع للأمام والغوص في أعماق مصطلح الحداثة الذي كان أكثر المصطلحات جدلاً في القرن العشرين، والقيام بثورة فكرية تغير الواقع وتبرّج الموروث لإعادة تنقيحه وترتيبه وإضاءته، وعدم رفض تيارات الحداثة الفكرية والثقافية والعلمية، وغيرها القادمة إلينا والعمل على إعادة إنتاجها لتكون من بيئتنا وواقعنا وحياتنا.
هناك كتاَّب من مدَّعي الحداثة ينشغلون بما هو قولي وشكلي على حساب ما هو فني وجمالي، يكتبون أفكاراً تدور في دهاليز معتمة مظلمة يتصورنها مليئة بالحكمة والذكاء، يصرون على أنهم قبضوا على المستحيل وكتَّفوه على بساط حلبة أوراقهم، يكثرون من كلمات العبث والفوضى والسأم والخواء والأفكار الشريرة التي تحاول تسميم العقول وتعكير الأفكار بدعوى أنها رؤى شعرية عنيفة شرسة ومعاني فكرية حداثوية، يدجون نصوصاً كتعاء عرجاء تزينها عيوب الرؤية المستهلكة والأفكار الغامضة القريبة من السواد، وأطنان من جرعات التوتر النفسي والتكرار الممل.
العولمة صارت واقعاً قائماً ليس لنا خيار في قبوله أو رفضه، والشعوب المثقفة تسطو على الشعوب الجاهلة المتخلفة عوضاً أن تساعدها على النهوض، ونحن لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن العالم، ومدَّعو الحداثة يدعون للتخلي عن الكثير من الثوابت والنواظم والقيم بدعوى أن التراث صار من القشور وصارت القيم تقليدية ولا قيمة لها وأصبحت تعيق الحركة وتعرقل التقدم للأمام، هم يعلمون ويهدفون للتبعية الثقافية ومحاكاة الغرب في مستويات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية وتستخير الحداثة للغزو والسيطرة في إطار الاعتقاد برغبة البلدان النامية بالمضي واللحاق بالبلدان المتبوعة وردم الفجوة الحضارية القائمة، لذلك يجب علينا التصدي لمنعكسات العولمة التي باتت تنهش فينا بلا رحمة، وإذا استمرت على هذه الحال لن تترك تفصيلاً عضوياً يصل الجوهر بباقي مكوناته التي لا تقل أهمية عنه وتنسفه كالوباء الذي يحتاج بيئة معنية ولا يسلم منه أحداً.
نحن لا نريد ثقافة مزيفة ممتلئة اصطناعاً وبهرجة فارغة، علينا مراجعة نقدية شاملة لتغلغل أدوات العولمة في نفوسنا ومجتمعنا، والتنبه من منزلق الأيديولوجيات التي تحملها العولمة وتأثيرها في الأدب وإظهار المكونات الأساسية لفكر الآخر- الغربي- الصهيوني- لتفادي عواقبه الوخيمة وعدم الاستخفاف بعقل القارئ العربي وتقديم أنماط ثقافية مشوهة عرجاء ندَّعي بها الحداثة الواقعية والتركيز على دور المبدعين في السعي لتحويل كل نشاط أو فعل ثقافي إلى قوة تغير وخلق وعي لحماية المجتمع من غزو ثقافي مشبوه، وبناء جيل متماسك واعٍ مشبع بثقافة الوطن والمحبة وصناعة الفرح واحترام الآخر ونبذ العنف والتطرف.
نعمان ابراهيم حميشة