الوحدة- هنادي عيسى
فقدت محافظة اللاذقية جوهرة الساحل السوري جزءاً حيوياً من رئتيها الخضراء، حرائق الغابات المتكررة أتت على مساحات شاسعة، محوّلةً غابات كانت مصدر فخر وجذب سياحي إلى مناطق متفحمة، مما تسبب بأضرار بيئية جسيمة وفقدان لميزة تنموية فريدة. لكن الأمل لا يزال قائماً، شرط اتباع نهج علمي دقيق لإعادة التأهيل، وفي هذا السياق يوضح الدكتور محمود علي أستاذ البيئة وحماية الغابات بكلية الزراعة ـ جامعة اللاذقية ” لـلوحدة “خارطة الطريق لاستعادة هذه الرئة الخضراء.

يرى د. علي أن أهم وأولى الخطوات هي حماية المواقع المحروقة بصرامة ومنع أي عبث أو تدخل عشوائي بها مؤكداً أن هذه الحماية هي الأساس الذي تُبنى عليه الإجراءات اللاحقة، أما الخطوة الثانية يجب أن تقوم على تشكيل لجان متخصصة لتقييم كل موقع على حدة وهذا التقييم يشمل: (تحديد نوع ومدى الضرر الذي لحق بالغطاء النباتي ـ تقييم تأثير الحريق على البذور في التربة وكمياتها (هل تكفي للتجدد الطبيعي؟) بالإضافة لحصر النباتات أو البقع التي نجت من الحريق ودراسة أهميتها وتقييم حساسية التربة للانجراف ووضع الحلول العاجلة.
خارطة طريق لاستعادة الغابة:
يواصل الدكتور علي حديثه قائلاً: بناءً على التقييم السابق تُوضع خطة لكل موقع تركز على أولوية التجدد الطبيعي ففي الساحل السوري، بمناخه المعتدل وأمطاره الجيدة، التجدد الطبيعي هو الأفضل والأكثر كفاءة في معظم الحالات، خاصة للصنوبر إذا كان قد أنتج مخاريط قبل الحريق، معتبراً أن التشجير العشوائي خطأ جسيم محذراً من التدخل البشري بالتشجير إذا أن التشجير يجب أن يكون فقط في حالات استثنائية تحددها اللجان العلمية، كما يجب التركيز على مكافحة الانجراف وذلك يعتمد على نوع التربة ودرجة الانحدار إذ غالباً ما يعيد الغطاء العشبي نفسه في الربيع الأول، ويكفي لحماية التربة في الساحل.
الحذر من أنواع الأشجار الدخيلة:
حذر د. علي من الدعوات لاستبدال الأنواع الموجودة بأنواع غريبة أو أشجار مثمرة إذ أن هذا الأمر مخالف للقانون (أرض الغابة للغابة) وخطير بيئياً فمعظم الأنواع المقترحة هي أنواع غازية تساهم في تدمير التنوع البيولوجي وتلحق الضرر بالبنية التحتية وتزيد من خطر الحرائق بالإضافة لتأثيرها على صحة الإنسان ويوضح أن إدخال أي نوع جديد يتطلب دراسات عميقة. ويستثني نوعاً واحداً ثبت نجاحه وتأقلمه مثل الأكاسيا مزرقة الورق (Acacia cyanophylla) لتحسين التربة الفقيرة وزيادة مقاومة الحريق، لكن بشروط إدارية صارمة وبُعد عن الأراضي الزراعية.
الجذوع المحروقة قنابل موقوتة تهدد الغابات:
كشف الدكتور علي- عضو اللجان العلمية لتقييم حرائق عام 2020 عن مخاطر ترك جذوع الأشجار المحترقة، مُستنداً إلى نتائج بحثية دقيقة حيث أكد أن التخلّص العاجل من الجذوع يقطع دورة تكاثر الحشرات الضارة (كخنافس اللحاء) وانتشار الأمراض الفطرية، التي تتحوّل إلى بؤر تهدد الغابات والمحاصيل الزراعية المجاورة. وقد تتحول هذه الجذوع إلى متفجرات جافة ترفع حدة الحرائق المقبلة، وتُعقّد عمليات الإطفاء، ما يزيد تآكل التربة وتلوث الهواء لفترات ممتدة وإذا شبّ حريق جديد قبل نضوج الأشجار وتكوينها للمخاريط (مصدر البذور)، نفقد الغابة كلياً”، مشيراً إلى أن إعادة التشجير ستكون عملية معقدة ومكلفة، لافتاً إلى الجدوى الاقتصادية باستخراج الجذوع الصالحة للاستخدام كالأخشاب (خفضاً للاستيراد) أو تحويلها لحطب تدفئة، مما يقلل الاستنزاف عن الغابات السليمة، كما يُفاقم التأخر في إزالة الجذوع المحروقة تدمير البادرات الطبيعية التي تعيد الحياة للغابة، مما يُعطّل تعافي النظام البيئي.
هندسة الغابة لمنع كارثة متكررة:
قدم د. علي حلول استراتيجية في ضوء الدروس تسهم في خلق بنية تحتية ذكية إذ أن صعوبة الوصول لمواقع الحرائق أعاقت الإخماد”، لذا شدّد على ضرورة إنشاء طرق خدمة و”مصدات نار” (خطوط إطفاء) عند إعادة التأهيل، لتكون صمام أمان للفرق المستقبلية داعياً إلى متابعة المواقع المتضررة سنوياً لضمان سير عملية التعافي الطبيعي نحو غابة ناضجة، مع تدخل فوري عند ظهور انحرافات بيئية.
دور محوري للمجتمع المحلي:
يرى د. علي أن إشراك المجتمعات المحلية المجاورة “مطلوب وضروري”لنجاح إعادة التأهيل، من خلال المشاركة في جمع مخلفات الحريق (الجذوع) تحت إشراف السلطات الحراجية، مع حصولهم على نسبة منها كما أن إدارتهم لبعض المواقع مقابل دخل من الغابة يخلق حافزاً اقتصادياً لحمايتها، فالغابة تصبح مصدر رزق لهم”.
إنقاذ الغابات يؤسس بالعلم ويبنى بالالتزام:
يختتم د. علي حديثه بالقول: إن بعث الحياة في غابات اللاذقية المحروقة ليس مجرد غرس شتلات في الأرض المحترقة، بل هو رحلة علمية شاقة، تطلب دقة الحرفي وصبر الزارع، وخطوة خطوة على درب الخطة المرسومة، والتسرع في قرارات غير راشدة، أو الإهمال في مقاربة الجرح البيئي، كالتشجير العشوائي أو استبدال الأنواع قد يحول الكارثة المؤقتة إلى خسارة بيئية دائمة و إن إنقاذ ما بقي من اخضرار، واستعادة ما التهمته النيران، واجب جماعي، تؤسسه معارف العلم، ويتم بناؤه بإرادة الالتزام.