العدد: 9400
1-8-2019
هذه قصة حقيقية ووثائقية أرويها لجنودنا البواسل بمناسبة عيد الجيش، والمزيونة باللهجة الفراتية هي الفتاة التي زيّنها الله فأغناها عن الزينة، والجندي الأسمر ككل الجنود السوريين لوّحته الشمس ولم تقسُ عليه، وسقاه النهر الخلد فراتاً طهوراً، ترك أهله ومزيونته التي يحبها في قريته بأقصى الشمال السوري، وجاء لخدمة علم سورية في روابي الجولان.
وزمانها، يوم شتائي عاصف من الأيام العصيبة التي فصلت ما بين انكسار حزيران وانتصار تشرين، في ذلك اليوم البارد تساقط الثلج فغمر منطقة الشرق الأوسط بكاملها، وتحدثت الأرصاد الجوية أن القطر لم يصادف مثل هذه العاصفة منذ أربعين عاماً ونيّف.
في تلك الأيام وقد عطلت العاصفة الثلجية كل شيء، غادر جندينا الأسمر وحدته العسكرية في أطراف (نوى) قاصداً زيارة ابن قريته المجند الذي يخدم على الحد الأمامي مع العدو الإسرائيلي، أي في المنطقة التي تعرف بالعلم العسكري (التماس المباشر).
كانت الزيارة تحمل لجندينا معاني كثيرة، فلا ريب أن مضيفه وقد عاد من إجازة لقريتهما المشتركة، سيحمل له في جعبته بعضاً من أخبار الأهل، وكثيراً من أخبار المزيونة، وسيكون حديثاً يدفئ القلب في هذا اليوم قاسي البرودة، لذلك حث الخطا وما هي إلا مسيرة ساعة أو أقل حتى كان جندينا يحتسي الشاي مع مضيفه في الخيمة التي غطاها الثلج، التي حاولت مدفأة المازوت جاهدة إبعاد شبح البرد عن هذه الجلسة الودودة التي جمعته مع ابن قريته وزملائه.
وتطلع جندينا إلى خارج الخيمة فلمح جندياً على مسافة بضع مئات من الأمتار يقوم بأعمال الحراسة وهو دائم الحركة لطرد البرد عنه.
قال جندينا لمضيفه، اصرخوا لهذا الجندي ليشاركنا الشاي ويتدفّأ قليلاً وأنا جاهز للحراسة بدلاً عنه، فرد عليه جلساؤه أن ذلك مستحيل، فالجندي إسرائيلي،فأجابهم على عجل: إنكم تمزحون!
ردوا عليه: ليس في الأمر مزاح، هناك الأرض المحتلة.
وقبل أن يكملوا قال بعصبية، وكيف تستطيعون مشاهدته؟ بل كيف يستطيع المرء أن يرى عدوه أمامه ويسكت؟! ولماذا لا..
فقاطعوه: الأوامر هكذا وليس بيدنا نحن قرار فتح النار، وبسرعة قال لهم: أعطوني بارودة وسأذهب وأجلبه إلى هنا.
أجابوه: حتى هذه فيها مخالفة للتعليمات نحن نريد كما أنت تريد، ولكن ليس باليد حيلة، وأربّد وجه جندينا ولم يكمل كأس الشاي وفارقهم دون وداع وهو يحث الخطا إلى وحدته، وقد أقسم أنه لن يعود أبداً لزيارة مضيفه وزملائه، بل أن خيمتهم حرام عليه بعد الآن.
وفي اليوم التالي هبت العاصفة تحمل الثلج كما يوم أمس، فاستأذن الجندي قائده للذهاب إلى (نوى) القريبة لشراء الحاجات وحمل بارودته دون أن يراه أحد، وحملته أقدامه يغذّيها دم الشباب إلى ما كان يفكر فيه أمس، وراحت كتل الجليد تنسحق تحت خبطة القدمين الهادرة، وبأقل من ساعة بكثير كان يراقب جندياً إسرائيلياً مكان جندي الأمس وابتسم جندينا وشكر الله، لأنه لم يضيع له تعبه هذا الصباح، فها هي الطريدة لا تفصله عنها إلا مئات قليلة من الأمتار، وبغريزته الفطرية وشيء مما تعلمه في تدريبه العسكري وبقفزات سريعة مدروسة باتجاه الجندي المعادي، كان جندينا خلف هدفه وبسرعة فهد، كان ينقض على هدفه الذي شلته المباغتة وبسرعة كان الجندي المعادي عاجزاً عن الحركة ومحمولاً على كتفي الجندي الأسمر، عائداً به إلى الأرض الصديقة.
ولأن الثلج قطع الطرقات وعطل حركة الآليات فقد حمل جندينا أسيره بضعة كيلومترات وفجأة انزلقت قدم جندينا على الجليد المتجمد فأصبح أسيره فوقه، فاستل حربته ليطعن جندينا طعنة عميقة في ذراعه، وبكل هدوء أمسك جندينا بخصمه وأمره أن يضمد له ذراعه بالكوفية التي كان يرتديها وساقه أمامه ما تبقى من الطريق إلى مقر قيادة اللواء في نوى.
وبعد قليل كان يقرع الباب على قائد اللواء الذي أدهشته المفاجأة الجميلة فاصطحب على عجل جندينا وأسيره إلى دمشق، وإلى مكتب وزير الدفاع (الرئيس الخالد حافظ الأسد)، الذي سرته الواقعة ورأى فيها الزهرة التي تسبق الربيع، فكرم الجندي الباسل ورقّاه إلى رتبة صف ضابط، بعد أن منحه جائزة مالية مجزية، وإجازة طويلة مكافأة له وأثناء إجازته الطويلة في قريته زاره الناس واعتبروه مفخرة للقرية… ولكن ما يثلج قلبه أن المزيونة سمعت كل أخباره، وآخرها أن أمين فرع الحزب والمحافظ يرافقهما مختار القرية، زاروه وقالوا له لدينا تعليمات من القيادة بإجابة أي طلب لك..
وعلى استحياء انتصبت في ذاكرته تلك المزيونة التي خفق لها قلبه، وشعر بغصة لأنه لا يملك ولو جزءاً يسيراً من مهرها أو (السياق) كما يسمونه ولعل المختار شرح لهؤلاء الزوار الكبار معنى وسبب استحيائه وغصته، فقرروا زيارة والد المزيونة الذي اعتبر أن زيارة محافظ الرقة وأمين فرعها غير المتوقعة له ليست إلا جاهة وخطبة ابنته المزيونة للجندي الأسمر، فوافق على الزواج دون تردد معتبراً أن بسالة وشجاعة هذا الصهر الجديد هي المهر الحقيقي والغالي لابنته المزيونة.
المحامي يحيى زكريا