رقــم العــدد 9390
18 تمـــــــــــوز 2019
لأننا في زمن يسير على رأسه بدلاً من قدميه, وفي زمن انقلاب القيم وتبدل المفاهيم ليس غريباً أن يُدار العالم من خلال مدارس الكذب والنفاق والتضليل.
المحافظون الجدد في أمريكا أسسوا أكبر مدرسة للكذب على الأرض فهم حاولوا تخريب العالم وبناء عالم جديد على شاكلتهم ومن أجل ذلك سوّقوا تهمة أسلحة الدمار الشامل في العراق وهدموا حضارته التي بناها إنسان هذه الأرض عبر ما عُرف بحضارة ما بين النهرين, ومن أجل مشروعهم أسقطوا حكومات وأنظمة ودمروا بلدان وحوّلوا شعوبها إلى متسولين على أرصفة العالم.
أثارني فضولي قبل سنوات لمعرفة الجذر الفكري للمحافظين وبالبحث اكتشفت أن أغلبهم من خريجي الفلسفة وقد تتلمذوا جميعاً على يد الفيلسوف الفرنسي ليفي شتراوس مؤسس الأنتروبولوجيا البنيوية ونهلوا من أفكاره, ويعتبر شتراوس الذي عاش مئة عام أشهر علماء الاجتماع في القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين بفضل ماقدمه للمكتبة العالمية من أبحاث كان أهمها على الإطلاق كتابه ( مدارات حزينة).
وعلى ذكر الفلسفة فمذ كنا طلاباً في الجامعة بدأت علاقة ملتبسة بيننا نحن طلاب ( فن الممكن) وبين طلاب الفلسفة, وكانت حواراتنا ونقاشاتنا تنتهي بالخصام غالباً فلم يكن في حياتنا ما يمكن تسميته فن الحوار, أو ثقافة الحوار الذي لا يفسد للود قضية إذا كان أفضى إلى خلاف.
العلاقة الملتبسة مع طلاب الفلسفة دفعتنا لابتداع عبارات التهكم والمشاركة في رهانات لمعرفة طالب الفلسفة عن غيره من الطلاب, كنا نلتقي في حديقة كلية الآداب وفجأة يشير أحدنا هذا طالب فلسفة, نسأله كيف عرفت..؟ يقول: ألا ترونه ساهماً مع سقراط حول مفهوم الحقيقة, ويرتفع صوته ثانية وتلك طالبة الفلسفة, ونعيد السؤال عن سبب معرفته فيقول: انظروا إنها تتقاسم مع هيغل التفكير حول مفهوم الديالكنيك, و فجأة تمر عجوز طاعنة في السن على الاوتستراد المقابل فيصيح ثالثة وتلك طالبة فلسفة أيضاً نستغرب ونسأل عن علاقة العجوز بالرهان فيقول: إنها تتحدى ديمقرطيس الذي بنى فلسفته على حقيقة الروح التي تأبى أن تروح أو تغادر هذا الجسد المنهك.
من سوء طالعي أن قريباً لي كان يدرس الفلسفة وكان معي في نفس الغرفة وكنا في خصام دائم وعلى طرفي نقيض حتى عندما اشتريت كتاب فلسفة البؤس لبرودون سارع لشراء كتاب بؤس الفلسفة لكارل ماركس , مرة دخلت الغرفة فوجدته يضحك بصوت مرتفع, وقبل أن أسأله قال: إقرأ ما يقوله ديكارت والله قال نفس العبارة التي كنت سأقولها ( أنا أفكر إذا أنا موجود) قلت بتهكم: وهل أنت موجود.
بعد سنوات تم تكليفي بإلقاء محاضرات على طلاب الفلسفة في جامعة تشرين , وهناك تواصلت مع أكاديميين مختصين.. أناس طيبون .. بسطاء يفكرون كما نفكر , مرة نشأ خلاف فلسفي بين اثنين منهم حاولت التوسط وفض الاشتباك بناء على رغبة أحدهم , وعندما حاولت عرض وجهة نظره أمام خصمه
فاجأني بالقول : إن صاحبك يكذب، قلت لم ألمس ذلك، قال : لن تستطيع ، استفزني الرد كنت متحفزاً للمواجهة، لكنّه استدرك قائلاً: صاحبك يقول الكذب بحرارة الصدق أدهشتني العبارة وتساءلت: هل يعقل أن يكون الكذب بحرارة الصدق ، للوهلة الأولى اعتقدت أنها فلسفية حالمة، لكنّ الواقع أثبت صحتها بدليل أنه غدا ملح حياتنا اليومية.
إبراهيم شعبان