العدد: 9390
الخميس 18-7-2019
لا يختلف اثنان على أنّ فرقاً واضحاً وجد بين جيل الآباء وجيل الأبناء لناحية الثقافة والتثقيف، مع اختلاف أدواتهما وطرائق الحصول على المعلومة، ونشرها، والاستفادة منها، وحفظهما..
جيل الآباء يستذكر منابع الثقافة الأولى بشغفٍ وحبّ كبيرين، مع صعوبة الحصول على أبسطهما ألا وهو الكتاب، الذي كان يحتاج إلى ( ادخارٍ) طريق الوصول إليه، مع ظروف الحياة الصعبة آنذاك، وقلّة ذات اليد، وضرورات الاعتماد على النفس في تأسيس وتكوين الذات، إلا أنه كان متاحاً للجميع، وفي كلّ الأمكنة والأزمنة، رفيقٌ يلازم صاحبه، لا يغادر محفظته، أو مكتبته، حتّى أن بعضهم كان يتبارى ويتنافس باقتناء هذا الكنز، وعناوينه الكبيرة والنادرة، وتعداد نفائسه، ومصادره، وما يزال كثيرون منهم يحتفظون بمخطوطاتٍ نادرة، وكُتبٍ لم يعد لها مكان على رفوف المكتبات العامة، فُقِدت إمّا لانعدام الطلب عليها أو لقِدمها الشّديد، أو لقلّة عدد نسخها، ولم يكن الكتاب منبع الثقافة الوحيد لجيل الآباء، فحلقات العلم والأدب التي كانت تستضيفها دور الثقافة، وما زالت، والندوات والمحاضرات، والملتقيات والمهرجانات وفرّت مساحاتٍ كبيرة للتبادل الثقافي والنّهل من منابعه الغزيرة والكبيرة بأسماء وقامات لا تُنسى، غيّرت وجه الأدب والعلوم وأغنت معارفهما، وما يُعرف بـ (الصالون الأدبي) ما يزال شاهداً على أحداثٍ ولقاءاتٍ هامّة وحافلةٍ، صدّرت للعالم أسماء مميزة تركت آثارها وبصماتها في عقول أجيالٍ وأجيال، لم يحدّها الزمن ولا المسافات وتعاقب الفصول والبشر، أدواتها فكرية وعقلية، سلاحها القلم ثمّ القلم، ما تاهت أبداً في دروب الجهل والظلام، بل على العكس كانت مناراتٍ وضّاءةٍ تشعّ بنور أخلاقها وعلومها وآدابها، صنعت مجدها بنفسها ولنفسها، لم تتّكل على أحد، بل اتّكل عليها كثيرون، مثل هؤلاء نحنّ إلى ذكرهم ولا ننساهم أبداً، لكن أين جيل اليوم منهم؟
شتّان بين الجيلين، فشباب اليوم تغويه الشاشات الإلكترونية، والألواح الرّقمية والأجهزة الخلوية، آلاف المواقع للتواصل الاجتماعي واللاإنساني، كلّ ما يريدونه مُباحٌ بين أيديهم، لا حدود لآفاق العلم والأدب، لكن هل يستغلّون هذا الوافر من الإنتاج والتراث والإرث المعرفي، أم يتجاهلونه؟
وهل يوظّفون مصادر المعلومات هذه لخدمة عقولهم، أم لتسطيحهما وتقزيمها بدل إطلاقها إلى آفاق جديدة ومناهل غنيّة ومتنوعة يتزودّون منها بما طاب، غذاءً فكرياً وعقلياً يكسر قيوداً كبّلهم بها آباؤهم وعاداتهم وتقاليدهم البالية، وما عليهم سوى إطلاق العنان لملكاتهم الإبداعية في فضاءات الكون الرّحبة؟
ليس هذا وحسب، فما زالت مناهل ثقافة الأوّلين متاحةً لهم، من كتبٍ ودورٍ ثقافية وملتقيات أدبية و.. ما يجعل بين أيديهم بحوراً ليست للشعر فقط، إنما للعلم بأصنافه وفروعه المتعددة والمتنوعة والمختلفة.. سلالٌ عامرةُ بالغلال، ما عليهم سوى الانتقاء الصحيح وتحكيم العقل، وعدم الانجراف وراء ما يُفرض عليهم من غزوٍ ثقافي منافٍ لما وجدوا عليه آباءهم، أو الاستسهال في التزّود المعرفي وتبليد العقل واللّسان، ما يدفعهم إلى حافّة الهاوية، عوضاً عن امتلاك زمام المبادرة واعتلاء الصدارة، ليكون لهم نتاجٌ يبني عليهم أبناؤهم من بعدهم، كما بنوا هُمْ على أمجاد آبائهم، وليضعوا لهم حجر الأساس، فيكون البناء صلباً متيناً، لا تهزّه رياح الجهل، ولا تنال منه سهام الفيس بوك أو التويتر أو اليوتيوب أو…
ريم جبيلي