يا بحـر.. يا «أبـو» اليتامى

رقــم العــدد 9389
  الأربعاء 17 تمـــــــــــوز 2019

ما بين زرقتي البحر والسماء ترنيمة مدينة عاشقة حالمة، وحكايا ناس تتهجى أبجديتها على خيوط الفجر الأولى، وتشرح صدرها لتراتيل الرزق (يا بحر.. يا أيوب.. يا بو اليتامى) لتتصيد أحلامها على مراكب تبحر بلا سنارة أو شباك، وتتلاشى قصورها مع كل موجة تطأ الشط، ويكفينا أن نجالس فيه بواخر حطت رحالها، ونقول: تمشّينا على الكورنيش، أو قمنا برياضتنا في المشي والجري على الكورنيش، فأي كورنيش هذا؟ وهل يمكننا تسميته (كورنيش) فقط لأنه يجاور البحر؟ أم أنه لنرى البحر يجب علينا أن نغادر أسوار المدينة وعلى أطرافها حيث افترشتها الفنادق والمطاعم والأماكن الخاصة، وترك بعضه القليل جداً دون صلاحيات ورسوم لنراه يعج بالناس المساكين الحالمين بالسباحة ولو في (شبر مي)؟
(بتروح ع البحر وبترجع عطشان) كيف لا وليس بدخلك ما يروي عطشك للبحر ويسمح بدخول عائلتك والأولاد بواباته بلا (فيزا كارت) تحملها بعشرات الآلاف بل المئات، أليس بوسع بطاقة حملناها لأجل البنزين والمازوت والغاز و.. أن تسمح لنا بإشارة مرور وعبور حواجز قطعت علينا الطرق والدروب لنصل شطّ بحرنا وهو الذي نناديه (أبو اليتامى؟).
لم يعد البحر لغير من يدفع بيمينه ويساره، كما قالت (أم رشا) التي تأتي مع ابنتيها الصغيرتين إلى أحد الفنادق وعلى شطّها ترسو مراكبها كل يوم بعد أن دفعت 250 ألف ليرة فقط رسم دخول لها ولابنتها الأكبر تحت شرط لباس البحر، أما لو أرادت الدخول يومياً فعليها دفع 4آلاف ليرة، حينها استطاعت أن تسرب الصغرى من بين شبكة صيدهم، لكنها لم تكن لتنفذ منها حين تجوع الفتاتان والأطعمة بروائح وأشكال ليكون سعر سندويشة الهمبرغر ألفي ليرة فقط وكذلك الكريسبي والفروج حتى أدناها نقرشات كيس شيبس فقط ماستر كبير بـ (1500) ليرة والثلاج الذي يحبه الصغار بكأس صغير (800) ليرة والكبير (1200) ليرة فقط، أما الأركيلة (1200) ليرة ومنقل الفحم بألف والحمد لله حيث الجميع يطلبها..
(مسكين أنت يا بن البحر) وإن وصلنا مثلاً بحر وادي قنديل فقد امتدت الخصخصة والتمليك بعدد حبات الرمل، ورميت بشباك حلقت حول كراسي وطاولات مع بعض الطلبات التي تعصى على كل موظف من كل الدرجات والفئات لو حسبها مرة كل شهر فالطاولة ثلاثة آلاف والكرسي (500) فقط، ويمكن لك أن تطلب ما تشاء (فروج مشوي، وسلطة ببضعة آلاف) وبإمكانك أن تسبح وتروي ظمأك بمائه دون أن تغرق بماء الديون.
أما من أتى بالكراسي من البيت فله أن يبحث ويجرد المكان عساه يطال متراً لعائلته فقط دون أصحاب، ليفرد بعدها ما جاء به من زوادة حضرتها الزوجة من حواضر البيت والمونة وحتى سندويش لبنة وزعتر مع بطيخة وأركيلة وكل ما يمكنها وفيه التوفير.
وكل هذا الجمال والسحر لبحرنا وجوانبه يشكو التقصير والإهمال، وفوقها (عصة القبر) من قاذورات وفوارغ وعصارات مرمية على الشاطئ زادته ابتلاء، كما أنه لا وجود لبروشورات تظهر للسياح ولا إشارات تدل على الطريق ولا برامج أو ملحقات وملصقات لنضيع في طريق سالك بصعوبة فهل من حل ولو كان بسيطاً.
(شدوا الهمة.. الهمة قوية.. يا بحري هيلا هيلا ..) صيادون وليسوا غير قلة قليلة ومحسورة ببضع مراكب معدودة في البحر يمكن لأصحابها رمي شباك صيدهم وهو عملهم الذي يقتاتون عيشهم عليه (لكن هيهات يا أيوب) كما يقول قعقع وهو ابن كار ورثه عن أبيه، لكن رزق اليم اليوم قليل، ويبخل عليه البحر والحظ يغوص في الأعماق بسب معاناة في المازوت وغلاء عدة الصيد وشباكها وصيانة المركب التي تصل لمئات من الآلاف، كل هذا والحظ في الرزق قليل، أما الهواة فكثيرون والذين يذهبون للصيد للتمتع بهذا العمل في يوم عطلة أو إجازة أو حتى بعد الدوام في الوظيفة يصله سيراً على الأقدام يحمل سنارته والطعم يرميه ليجلس متأملاً البحر فيهتز خيطها بفم سمكة وقعت وليس ببطنها خاتم يوسف، بل ليس في بيعه عملة صعبة بل بعض الفكة والفراطة من ورقة الخمسمائة في أوقات قليلة عندما يكون الصيد وفيراً ويكبر حجمه على سعة وجبة العائلة وأفرادها ليكون فيها بعض رزق وسط اشتعال الأسعار وفورتها وضيق عيش وفقر معاش.


(نحن البحر وأهله نرتمي بين أحضانه كل صيف والذي يبدأ عندنا منذ أواسط شهر نيسان ولا ينتهي بغير رحيل أيلول) هذا ما أكدته سهى التي تؤم وزوجها وولديها شط البسيط ولها توسعت مكاناً ببيت خشبي صغير كما باقي شلتها (كروب) يصطافون معاً ويسبحون في الصباح وعند المساء بلا حواجز ولا قناطر والكل بثياب البحر دون إزعاج فتقول: نحن ذات الشلة منذ أكثر من عشرين سنة نقصد هذه البقعة لتكون جنتنا، وكل منا قد أزاح له مكاناً لبيت وخيمة وباقي المنتفعات، حيث يمكننا تحضير الطعام والوجبات ولنا أن نتشاركها ونتقاسمها مع بعضنا أو كل لوحده ولا خيار، لنا سهرات مع القمر والنجوم حتى ساعات الصباح، فلكل وقت بحره إذ أن بحر الليل للتسلية والسهر، لتكون أروع سباحة عند الصباح الباكر، أما القارب فليس لغير البرونزاج بين هدهدة الأمواج، أولادي أصبحوا زنوجاً وأفارقة هذا ما تصيح به أمي في وجهي فأخجل بهم، لكن الخجل ينزاح بين أهل المكان بعد اليوم الأول الذي نحط فيه، والثرثرة ومراقبة فلانة وغيرها والبحث في تفاصيلها؟
على شط وادي قنديل تعودنا كل عام أن نرى الفنانة التشكيلية ميادة حمدان مدرسة بجامعة تشرين قسم الاقتصاد المنزلي وأولاد مرسمها فنانين صغار قد أقاموا مهرجاناً سنوياً ورسموا على الرمال: تروي لنا قصتها مع البحر فتقول: البحر جاري، ريشتي تتصيد وترصد أدق التفاصيل فيه لأرسم لوحتي، والبحر له النصيب الأكبر في أعمالي، فالجلوس أمام البحر يداعب نفسي ويؤجج انفعالاتي معه ليزخمني بأفكار جديدة ويهبني طاقة إيجابية لأرسم ما بداخلي ويزيح هموم حياتي وعبئها والقلق من مستقبل مجهول، أنظر إلى البحر، أتفقد مزاجه ولونه فقد يعكر رسمي ومزاجي أيضاً.
يتجدد نشاطي مع كل موجة تطأ الشاطئ وتغسل رماله لأرسم لوحة أو أشكال منحوتة على رماله، يمكن أن تأخذها موجة قادمة على عجل، وقد أشعر أنا وطلابي عند ملامسة رماله وخربشاتهم على وجهه بأكفهم الصغيرة وقلوبهم البريئة، بأنه حديقة ألعابهم يغادرونه وعيونهم ما زالت تطأ جسده لتتراجع أقدامهم إليه..
أحافظ على سعادة الأطفال التي تعتريني في تدريبهم وتثقيفهم بتذوق الفن والعراك اللطيف بينهم على الرسم وضحكة تنجب ضحكة، وإبداع يجر إبداعاً وسعادة من رحم البراءة ويهيم الوجد بي عند ذاك النشاط معهم خارج جدران المرسم بشغف نركض صوب البحر القريب من مرسمي نزوره مشياً على أقدامنا والفرح يسبقنا، يعانقون أمواجه ويغوصون بين قطرات مائه دون وجل أو خوف يلهون دون ملل ويرتمون بين أحضانه التي تلفهم وتقبلهم، وألاحظ مدى اختلاف رسوماتهم بين جدران المرسم وكبر البحر واتساع موجه ومدى حبهم للبحر، يحملونها على أوراقهم البيضاء بدلالات وأحاسيس وأفكار أو ربما أحلام، البحر ينمي مخيلة الطفل ويكون مهاراته ويخلصه من الانطوائية والانعزالية ليولد الحس الجمالي والذوق، والعلاقة بينهما مد وجذر، فلطالما البحر يشبه الأطفال بشغفه وشغبه ولهوه وهجومه وهدوئه وهيجانه وفورته ليشتد حر الصيف فيركضون إليه ليبردوا أجسادهم الصغيرة بمائه.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار