العدد: 9388
الثلاثاء16-7-2019
كما في كل مرة، يلعن العجوز نفسه الأمارة بالسوء، حين تأمره أن يعود إلى مدينته التي تركها بعد أن هجرها الحب.
ذات تاريخ.. حسم وحزم، حمل حقيبته ومضى..
وكان قد رحل بعد ليل أسود طويل، يضيئه رصاص غزير، يشعله، يقلقه، يقتله، فيقتل الهدوء والسكينة والأمان والحب..
بعد سنين يقرر العجوز زيارة الأماكن التي هجرها وما تزال تعيش بين الضلوع وفي الذاكرة، ويعود.
أول زيارة، تأكد أنه كان يرى بقلبه لا بعينيه، فمدينته قبيحة، شوارعها متخمة بالجدران، والناس الذين يملكون قلبه وذاكرته لم يتغيروا، هم أنفسهم، هو من تغير.. زاحت الغيمة الرقيقة عن عينيه ظلالها والحب.
هو الحب يصنع المعجزات، لكن الحب لم يجلب له إلا التعاسة، يردد في سره..
أن تحب دون مقابل مسألة، فالناس ليسوا أنبياء ولا قديسين..
البشر خطاؤون، بعضهم شجاع كجندي في ساحة المعركة، أكون أو لا أكون،
وكثيرون جبناء يرضون بالقليل، والأغلب هم الذين يقبلون بمن ضربك على خدك الأيمن در له الخد الأيسر لتستمر الحياة.
في الزيارة الثانية، وجد الحياة تعود إلى المدينة رغم الدمار، لكن بلون جديد، وطعم مر، تذوقه وهو يسير في الأحياء المهدمة كأفلام الرعب، هناك كانت أولى تجاربه في العمل، أول مدرسة درَس فيها طلاباً على نظام الساعات، وتركها بعد أقل من شهر دون أن يقول وداعاً، غير طامع بأجر زهيد لا يلبي طموح فقير معدم، كانت المدرسة بعيدة عن قلبه، وروحه، وشخصه، هرب دون وداع، واليوم يهرب منها، يسرع الخطى، وهو يمر بجانب بقاياها المترامية في المكان، بين الأبنية المهدمة في الشارع، بل في الحي كله.
أما في الزيارة الثالثة، استجمع قواه وعاد إلى حيه، الأرصفة لم تعرف خطواته، أرصفة أحبها كغرفته، سريره، كتابه، وأمه.. الحب ذنب يقترفه، ثم يندم، ولا يتعلم.
أرصفة الحي رحلت مع خطواته الرشيقة، الخطوات الرتيبة المتعبة البطيئة، استبدلها الزمن، وديسك الرقبة، والتهاب المفاصل.. و..
في المرة الأخيرة.. كل الأفواه جائعة، هكذا بدا له المشهد، الوجوه متعبة أو شاردة، ربما تفكر بالحب الذي رحل كما يفكر.
كل من اضطر للحديث أو التعامل معه كان همه الأول المال، والحديث عن النقود،
العملة التي تجلب كل شيء حتى الحب!
وكما دعته روحه للعودة من حيث البداية، وكما لبى النداء، وبنفس السرعة هرب، الهرب ثلثا الشجاعة..
عاد وهو يقول بوقار للشاب القابع في داخله: ما ذهب لن يعود، والحب أيضاً،
وكما في كل مرة يعود ..
سعاد سليمان