العدد: 9283
3-2-2019
احتاجت إلى عكّازٍ بعد إصابتها الخطيرة على إثر رضّة في قدمها، عجوز سلبت منها معاناة الحياة أغلب عافيتها، فما إن وصف لها الطبيب بعض المشي كلّ يوم، حتى اشتبكت قدماها مع بعضها، فسقطت باكية شاكية.
لبّيت طلبها واخترت لها عكّازاً من النوع الجيّد (خشب سنديان)، فهي نفسها سنديانة ألمَّ بها شتاء التّعب بما فيه من بقيّة مؤونة تسعف نفسها بنفسها بها.
بعد التسوّق وعلى عجَلٍ من أمرنا، أدركنا الوقت أنا وصديقتي، فأشرنا إلى عجلة صفراء وصعدنا والعكّازة بدَت واضحةً بيد صديقتي التي استحت وبابتسامة حياء تعتذر من السّائق الشابّ (الأستاذ)، قائلة: إنّها لِعَجُوز، فردّ بابتسامةٍ وبكلماتٍ تداعب طريقنا: (لا، لا، هيك كتير طالعين تضربونا وفي عقر دارنا سامحونا يا جماعة والله العظيم ما عملنا شي)!
كان ردّ صديقتي له والتي هي أكبر منّي سنّاً وبأسلوب فكاهيّ ضاحك: حتّى تعلم نحن النّساء لا يستهان بنا!!
وهكذا بقيا يتحاوران حتى وصل بهما الحوار إلى ما نعاني من ذيول الأزمة.. بابتسامة تارةً ومثاليّة تارةً أخرى، حيث كان للسّائق (أستاذ الاجتماع) رأي، فقد أثبت من خلال حديثه بأنّ الأزمة السوريّة كانت لها عواقب كثيرة داخل أفراد المجتمع، فقد شمل الفساد والكذب وقلّة الأمانة البعض مستغلّين انشغال المعنيين بأمور مهمّة لها أولويّة الحلّ، وقد أطال السّائق الأستاذ بحديث الوفاء والأمانة، وردّ الأمانة للمُدين والمُستدان، وغيرها الكثير من الخصال الحميدة التي ابتعدت قليلًا عن معارفنا وأقرب الناس إلينا!
كان ردّ صديقتي: نعم، وأنا أجاريك المفهوم ذاته، فالأمانة هي مجموعة عقول كبيرة تتحلّى بشجاعة الصّدق والوفاء.
لو أنّ ثلث الشّعب الذي انهزم في أزمتنا العصيبة يحمل ويلتزم بعقليّة أفكارك المثاليّة الجميلة لبقيت سوريّتنا معافاة منذ الأيام الأولى في أزمتها الموجِعة!
ولكن كانت هناك مغريات ملوّنة ومفَبْركة وألاعيب مفنّنة من أيدٍ غريبة تدخّلت بحقدٍ وكراهيةٍ ممّا أثّر على عقول البعض.
وهكذا استمرّ النقاش على هذا الشكل إلى أن وصلنا إلى المكان المطلوب، وفتحنا باب (التاكسي) مسرورين ضاحكين، وجمعنا أكياس أغراضنا شاكرين السائق الأستاذ على إنسانيّة لسانه وحديثه الإنسانيّ الهادف، واحترامه!
مشينا مثقلين من الحاجات التي بيدينا وعند مدخل البناية افتقدت العكّازة وفتّشت عنها، فلم أجد لها أثراً، نظرت إلى يدي صديقتي لم تكن بين الحاجيات، سألت صديقتي: أين العكّازة؟!
نظرت إليّ بدهشة واستغراب وإحباط وتساؤل مستمرّ مع ذاتها تولول ماذا، هل أنا نسيتها (لَهْ لَهْ) إنّها ليست موجودة معي، نسيتها، راحت بالنسيان لقد نسيتها في أرض التاكسي!
كانت صدمتنا لا توصف، وخصوصاً عندما عدنا إلى مكان نزولنا من التاكسي، ونظرنا إلى امتداد الشارع الطويل، فرأينا السّائق الأستاذ من بعيد يوقف سيّارته ويأخذ العكّاز ليضعها بجانبه ثمّ يصعد التاكسي!! تفاءلنا آملين وواثقين برجوعه ليعيد لنا ما نسيناه!
وكان أعجب العجب أنّه تناسى بل تجاوز مثاليّته التي عكست نقاطاً متقاطعة بين عفويّة ملوّثة، ومثاليّة مشبوهة!!
وكم بين الترائي والتباكي!! وكم من عالم ألجْأَهُ جهله إلى الابتزاز ولكن بشكل آخر حتّى ذلك السّائق!!
د. سحر أحمد علي