على طــــــــريق إعــــادة الإعمـــــار «25».. آثــــار نفســــــية واجتماعيــــة كبـــــــيرة نتجاوزهـــــا بفهـــــم أســـــبابها ومخاطرهــــــا
العدد: 9380
4-7-2019
مرونة مجتمعية حسمت حرباً طويلة، وهزمت قوافلها، لكن النجاة بزيادة نسبة الذكاء المجتمعي كرصيد تنموي جديد..
ليس بالسلاح وحده يُهزم الإرهاب، فالمرونة المجتمعية لعبت دورها لتسع سنوات من حرب طحنت بين رحاها البشر والحجر والشجر، وهدمت أوتاد البنى التحتية والاقتصادية، حتى أنها أثرّت على بنية وتركيبة المجتمع وتشكيلاته وأعرافه.
منذ عامين وثلاثة تحدثت الدكتورة ليلى شريف بالأرقام عن الصحة النفسية وإعادة التأهيل والإعمار في إحدى الندوات وقد تضمنت إحصائيات قبل الأزمة، وجاءت على أن الحاجة الطبية النفسية قبل الحرب لم تكن تكفي لأكثر من 10% من حاجة المجتمع المحلي، كما أن عدد الأطباء النفسيين في سورية كان 120 طبيباً، ولم يكن للمعالجين النفسيين وجود، وفي جميع أنحاء سورية يوجد مستشفيان نفسيان متخصصان وغيرهما خاصان فقط، ونتيجة الظروف الاستثنائية التي عشناها ونعيشها تضاعفت الحاجة النفسية إلى أربعة أضعاف، وانخفض عدد الأطباء النفسيين إلى 72 طبيباً فقط بسبب الهجرة، وهذا العدد جداً قليل فهو لا يكفي لمقابلة المرضى ذوي الحالات النفسية الشديدة إلا مرتين في السنة، وغير قادر على تقديم الخدمة المطلوبة إذ لا وجود لمعالجين نفسيين، هناك شخص واحد من أصل مائة مصاب بداء السكري، في حين أنه هناك (15- 20)% من الناس مصابون بالاكتئاب و(20-30)% مصابون باضطرابات القلق و1% مصابون بالفصام، ومع ذلك فإن عدد الأطباء النفسيين في سورية هو أقل بكثير من باقي الاختصاصات الأخرى، إن نسبة مرضى الفصام مثلاً في أي مجتمع تصل إلى 1% وهذا يعني وجود 200ألف فصامي سوري يحتاجون ل500 طبيب نفسي على الأقل، وهذا في الحالة الطبيعية لأي مجتمع، فكيف بعد ما نعيشه الآن، حيث أن الأعداد كبيرة ولا إحصائيات دقيقة لها، إذا أطلقنا شعار إعادة تأهيل من سيقوم به، ولا كوادر متخصصة مدربة؟
هناك بعض الجمعيات الخيرية التي تحاول تقديم الدعم النفسي من خلال متطوعين أغلبهم لا يحملون اختصاصاً نفسياً، يمكن أن يعمل بعض ممن تخرج من أقسام الإرشاد في جامعات القطر بالدعم النفسي، ولكن لا مؤسسات حكومية تتبناهم أو تدير عملهم، أو تجد من يشرف عليهم رغم تواضع إمكانيات هؤلاء المرشدين، نريد ونحتاج المساعدة النفسية المتخصصة ولكن لا كوادر متخصصة ولا جهة رسمية حكومية تسمح بإعداد الكوادر النفسية المتخصصة فكيف سنعيد تأهيل المتضررين نفسياً من هذه الأوضاع؟
الدكتورة فتاة صقر مديرة مكتب المصالحة باللاذقية ومديرة دعم نفسي في جمعية تنظيم الأسرة تناولت في حديثها آثار الحرب على الأسرة والمجتمع:
أكدت أن الحرب أثرت على النسيج المجتمعي، وفككت روابطه عن طريق تشتت الأسرة، فلا تكاد تخلو أسرة من مفقود أو شهيد، ويزيد من تأزم الموقف إذا ما كان معيلاً، ومن المعلوم أن الأسرة هي الخلية الأولى أو المجتمع الأولي المصغر الذي ينطلق منه الفرد، وهو مزود بكامل طاقته النفسية والاجتماعية، وقد عملت مؤسسات حكومية وأهلية كثيرة على لمّ شمل الأسرة بآليات إنسانية.
عملت الحرب أيضاً على تغيير التركيب النوعي للمجتمع بين الذكور والإناث، وأدت إلى تغير ديموغرافي، فهناك مناطق مزدحمة بالسكان ومناطق تم تهجير سكانها بالكامل بالإضافة إلى هدر الموارد الاقتصادية وسرقتها من قبل الإرهاب، كل هذا أدى إلى التأثير على بيئة الأسرة السورية ونمط التربية فيها، بالإضافة إلى ظهور أمراض اجتماعية كثيرة مثل: عمالة الأطفال، البطالة، التسول، المخدرات، الدعارة، وتفشي ظاهرة الزواج المبكر (زواج القاصرات) والتمسك بالعادات والتقاليد المعيقة للتطور المجتمعي، وبروز ظاهرة العنف بين الشرائح المجتمعية المختلفة (نساء، أطفال، شباب، مسنين) بالإضافة لحوادث الطلاق الكثيرة والأرامل… كل هذه الأمراض شكلت فجوات في التربية، ومنها فجوات تعليمية عند اليافعين نتيجة تسربهم من المدارس، كما أنه في عودة المخطوف والمفقود إلى المجتمع تحد كبير للفرد نفسه والمجتمع أيضاً تأتي في الانسجام والاختلاط بعد تعرضه لحالات لا إنسانية، والأمثلة كثيرة أذكر آخرها شاب صغير تم تحريره من الخطف بعد قتل أسرته بالكامل أمام عينيه، وتمت مساعدته وإعادة دمجه اجتماعياً ونفسياً وتربوياً.
إن إعادة هذا النسيج الاجتماعي لا يكون بغير جهود تصالحية واتخاذ مشروع حضاري طويل الأمد يبدأ بمقاومة الظلم والفساد وإعادة إصلاح ما فسد من العلاقات الاجتماعية والمهنية والتنازعات أو الاختلافات الطائفية، ويكون الانسجام المجتمعي بالتنشئة الاجتماعية من قبل الأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الرسمية والأهلية القائمة على التسامح والحب والتصالح والعطاء لتخدم هذه الصفات كلها الانتماء الحقيقي للوطن، وبهذا يعود الرأسمال المجتمعي بأفراد جدد مثل المخطوفين والمهجرين والجرحى كي يساهموا في إعادة بناء المجتمع والنهوض بالوطن، وإشراك النساء والأفراد الفاعلين في المجتمع ليزيدوا نسبة الذكاء المجتمعي الذي ساهمت الحرب بانخفاضه، وهو الكفيل باستدامة التنمية المجتمعية كرصيد تنموي جديد.
وأشارت إلى دور مكتب المصالحة في إعادة استقرار المجتمع السوري، واستعادة توازن المجتمع بالحد الأدنى من حيث الجهود المجتمعية والدروس المستفادة لعودة الاستقرار، سنوات طويلة من الحرب على بلدنا بأبعادها الإقليمية والدولية وضعت المجتمعات المحلية ورأسمالها المجتمعي السوري ومواردها الموزعة على جغرافيتها وحتى خارجها في مواجهة تحديات كبيرة ومركبة مضاف عليها تحديات قديمة، كل ذلك أسس إلى واقع اجتماعي مختلف وذي تعقيد عال التركيز، لكن بقيت المرونة المجتمعية التي أبدتها مجتمعاتنا السورية إحدى العوامل الحاسمة للنجاة، ويتم التعويل عليها لتجاوز مرحلة الانتظار عبر عملية التنمية كمحرك أساسي لصياغة واقع اجتماعي أقل تعقيد أو أكثر قدرة على التفاعل مع محيطه في عملية طويلة الأمد من خلال مشروع المصالحات كمشروع حضاري يعيد الروابط المجتمعية ويساعد السوريين في إعادة ترتيب تموضعهم ضمن جهود تصالحية، وتعمل هذه الجهود على تحفيز الرأسمال المجتمعي من خلال لجان الأحياء والمراكز المجتمعية الرسمية والأهلية، ليأتي دور مجالس المدن التي تعمل مع حوامل تنموية جديدة مثل: النساء، المهجرين، اللاجئين، المغتربين، المتقاعدين، جرحى الحرب، أطفال الشوارع ..
وفي جمعية تنظيم الأسرة تتم متابعة حالات نفسية واجتماعية وتقديم خدمات تحتاجها لإعادة اندماجها في المجتمع من جديد، كما يتم أيضاً من خلال مركز المساحات الآمنة للمرأة تمكينها نفسياً ومعرفياً واقتصادياً، كما يتم التعامل مع النساء الوافدات إلى المجتمع ومساعدتهن على إعادة الاندماج مع المجتمع النظيف وتقديم دعم نفسي للنساء بعد الولادة وأثناءها بالإضافة لتقديم معونات للحوامل بالتشبيك مع جمعية الإخاء وأصدقاء الفقير، بالإضافة إلى تقديمها الدعم النفسي الاجتماعي لذوي المفقودين وفق احتياجات أسرهم.
الدكتورة عبير حاتم، مدرسة بجامعة تشرين تحدثت عن البعد النفسي والأخلاقي لدور المرأة في الأزمات والحروب، فقالت: من يعيش داخل الحدث وخاصة في الحروب قد يعتادها بعد فترة ويكبر معها ويقوى عليها، وإلا يستسلم للخوف والموت ويغلق على نفسه أبواب الحياة.
تعاني النساء من الحروب ما يعانيه منها الرجال، إذ يتعرضن للقتل والإصابة والإعاقة والتعذيب، ويتم استهدافهن بالأسلحة ويعانين من التفكك الاجتماعي والاقتصادي، كما يعانين من آثار العنف قبل وأثناء وبعد الهروب من مناطق القتال، وكثيراً ما يتعرضن للمزيد من الأذى والعنف القائم على الجنس والاغتصاب و(الزواج والحمل والإجهاض) القسري والتعذيب والاتجار والاستعباد الجنسي، وبديهي تماماً أنه خلال الحروب والنزاعات المسلحة تكون المرأة هي الخاسر الأكبر وعلى جميع المستويات الشخصية والعامة، ونرى الأعباء المضاعفة التي تقوم بها المرأة في ظل ظروف استثنائية فرضت على الرجل أن يكون غائباً لأسباب متعددة تاركاً جميع الأعباء على المرأة التي أثبتت أنها قادرة وبجدارة على تلبية احتياجات الأسرة المادية والمعنوية إذ تقوم النساء بأدوار لم تكن منوطة بهن ويخضن غمار مجالات لم يكن يسمح لهن الخوض فيها، فما هي الآثار النفسية والاجتماعية للحروب على المرأة ؟
الآثار المباشرة، والتي تأخذ شكل الصدمات النفسية الناتجة عن القلق الشديد لانعدام الأمان، الآثار الناتجة عن توتر الوضع الأسري من انعكاسات الحرب والتوترات المصاحبة لها عن غموض المستقبل وأزمات حياتية على جو الأسرة بشكل (توتر، صراع، تبلد الجو الأسري، كآبة وضيق، ثورات غضب بين الزوجين تعود فتنعكس على الأطفال قلقاً وعجزاً تصاحبهما أعراضاً صحية وجسدية ونفسية، ويتحول العالم الخارجي من مثير وفيه جاذبية وغنى للشخصية إلى عالم مهدد مقلق مليء بالمخاطر، كذلك غياب المثيرات الثقافية وتوقفها ( فقدان الحدائق العامة، المعارض، المسارح، السينما..) وأيضاً انحسار مناسبات التفاعل الاجتماعي والثقافي.
الآثار الناتجة عن اضطراب الأدوار الأسرية وأدوار السلطة وتغيّر المواقع وانعكاس ذلك على المرجعية الأسرية وضعفها أو انهيارها، الآثار الناتجة عن التهجير والذي هو أكبر صدمات الحرب حيث الشعور بالاقتلاع وفقدان المجال الحيوي المطمئن والمألوف، والوقوع في عالم غريب يفتقر إلى مقومات الحياة العادية، وكذلك اضطراب الضوابط الاجتماعية وتسيب السلوك وتدهور الأخلاق والإقبال على ممارسات جانحة وتصرفات غير متكيفة اجتماعياً واضطراب الإعداد للمستقبل، كما أن الصعوبات الاقتصادية لها أثرها على الأسرة وتماسكها وانعكاس ذلك على الأبناء وتسيبهم وتدهور الحياة الأسرية.
الآثار الناتجة عن الانقسامات السكانية فيها الفرز السكاني والانكفاء على مناطق مغلقة ذات لون واحد يهدد بانحسار الهوية الوطنية إلى مجرد هوية محلية أو طائفية، ويصاحب هذا الانحسار فقدان مشاعر الانتماء والولاء للوطن الكبير وغياب السلطة المرجعية المركزية بكل وزنها القانوني والرمزي وما تشكله في إطار المواطنة، ويرافقها بروز مشاعر التعصب وتفجر الميول العنيفة المميزة للانغلاق على الجماعة وتصعيد مشاعر العداء تجاه الجماعات الأخرى، الآثار الناتجة عن التراخي السلوكي العام وانهيار المعايير منها التحايل على القانون وسيادة منطق تدبير الحال الأناني على حساب الغير والأصول القانونية في التصرف والتكيف مع مخالفة القانون، العصاب التجريبي وهو الشعور بالمأزق حيث لا يعرف الإنسان معها ماذا يقرر وكيف يتوجه لحيرته الدائمة بين احتمالين: الانفراج أو الانفجار، الحل أو التصعيد..
فماذا فعلت المرأة وكيف مارست دورها في هذه لظروف؟
لقد تجلى الدور الاجتماعي والنفسي للمرأة السورية في تشبثها بقيمها الوطنية والتضحية بأغلى ما تملك من أولاد وزوج، في تمسكها بوظيفتها التربوية كأم وربة منزل يتنقلن دون معيل إلى الأماكن الآمنة ويدفعن بأولادهن للمدارس كما تجلى دورها في المبادرات الأهلية التي انتشرت واسعاً وعملت على تعبئة الطاقات الوطنية لتقديم المساعدة وبلسمة الجراح ومعايشة هموم الضعيفين، حيث قامت معظمها بجهود نسائية مجسدة قيم التكافل الاجتماعي والترابط بين أبناء الوطن إضافة إلى سياسة الاقتصاد المنزلي والذي تعد المرأة عماده لتساعد أسرتها على دعم وتطوير مولدات الدخل، ولا يمكن أن ننسى النساء المجندات في الجيش والقوات الرديفة (لجان شعبية وكتائب البعث) مما يجسد قيماً عليا كالانتماء والشجاعة والدفاع عن الوطن.
يخطئ من يعتقد أن المرأة هي الأضعف في الحرب، فقد أثبتت أنها نموذج مقاوم عظيم رغم تعرضها للتعذيب والاغتصاب والقتل والتشرد و.. التضحية، وكانت شريكة في صنع المجد والنصر وكذلك في الآمال والآلام فللمرأة النصيب الأكبر من ويلات الحرب ومن انتصاراتها، المرأة السورية (أم الشهيد وأم الجندي وأم الحرف الأول) ولدت لتصنع التاريخ، ولا يمكن أن تكون غير عظيمة.
المرشدة النفسية رغداء سميع خير بك تناولت محوراً آخر في آثار الحرب على الطلاب والشباب ومن تجاربها فقالت: كمرشدة نفسية في مدرسة خضعنا لدورات تمحورت حول مخلفات الحرب والمتفجرات, حيث أنه في الحرب يزرع العدو ألغاماً وينشر بعض المخلفات بأشكال وأحجام صغيرة أو كبيرة تجذب الأطفال وأبناءنا الصغار بغية القتل وإزهاق الأرواح وإحداث الإعاقات، فما علينا سوى توعية الطلاب لمخاطر هذه المخلفات والابتعاد عنها، فأغلبها بشكل ألعاب محببة، كما أننا نوجه طلابنا الأعزاء ونعرفهم بالأساليب المتبعة لحمايتهم، حيث يوضع السياج حول المناطق والأمكنة التي يوجد فيها الخطر، والشاخصات الدالة على الخطر بإشارات وخطوط حمراء وبعض العبارات، كما توضع على الأبنية القابلة للهبوط والآيلة للسقوط، كما خضعنا لدورات تدريبية في مجال الدعم النفسي للحالات الطارئة ونقصد المدارس ومراكز الإيواء لدعم المهجرين نفسياً وكان لها أثر إيجابي كبير وحصدنا نتائج جميلة جداً حيث اشتغلنا على إعادة تأهيل هؤلاء الأبناء نفسياً وجسدياً وفكرياً من خلال التخفيف من حدة القلق والاضطراب والخوف بالتوازي مع تأمين الأمن والطمأنينة واحتضانهم والتعامل معهم بمحبة وتفاهم وانسجام مع بعض المساعدات وحسب الإمكانيات.
ومن جهة أخرى فقد ظهرت آثار نفسية كثيرة عليهم تجلت في اهتماماتهم فيما يتعلق بأحاديثهم وتصرفاتهم وأساليب عيشهم وحتى لعبهم التي دارت في معارك وهجوم فأشادوا الحواجز وحملوا السلاح والبارود، وهو ما يدل على حالتهم النفسية وقلقهم واضطرابهم أثر هجرهم بيوتهم واشتعال أماكن انتمائهم وسكنهم فكان الاستنفار وفقدان الطمأنينة والكرامة وعدم الأمان، كما أثر على تحصيلهم العلمي ولجأ بعضهم لترك مدرسته بحثاً عن عمل لتأمين قوتهم اليومي، ليصار إلى ارتفاع نسبتهم رغم حرص الدولة وسعيها الدائم لإيجاد فرص تعليمية متساوية للجميع، حيث قامت بفرز عدد من المعلمين إلى أماكن الإيواء وتعليم هؤلاء الأبناء بالإضافة إلى الصحة والسلامة الغذائية وتناول مجالات الحياة كافة ومناحيها قدر المستطاع.
هدى سلوم