حين تســـــافر الشــــمس في ذاكـــــــــرة الأيــــــــام

العدد: 9373

25-6-2019

 

البيوت التي بناها قدامى أجدادنا، وشبّ بين جدرانها وتحت سقوفها آباؤنا وترعرعنا نحن أبناء جيل الثلاثينيات والأربعينات من القرن الماضي، نحبو أمام عتباتها نستجدي الضوء الهارب من بين ثنايا شجرة توت معمّرة، تغلغلت بين تلافيف وريقاتها أشعة شمس مسافرة إلى حيث لم نكن نعلم في بواكير طفولتنا، أو ننصت باستغراب إلى زقزقة عصفور استراح على غصن شجرة سنديان استعصت جذورها على المعاول الحادّة وتمردّت على الزنود والسواعد التي أرادت اقتلاعها.. بهذه الكلمات استهلّ المؤلف جميل سليمان الراهب حديثه عن مهنة أو حرفة النجارة التي قدمت في عهود سابقة فوائد عديدة للحضارة الإنسانية وذلك في كتابه: (قبل أن تجفّ الذاكرة) مشيراً إلى الموروثات القديمة والآثار المكتشفة المنقوشة المرسومة على جدران المعابد والقصور وعلى أوجه الرقم الفخارية التي تدل أنّ الإنسان قد عرف – وبشكل مؤكد- أنه أتقن حرفة النجارة والتعامل مع الأحراج والغابات
ولو بشكل بدائي حيث أنه عاش في أدغالها وتغذى من ثمارها وتظلل تحت أفيائها، هذا وقد تحدث المؤلف عن جدران بيوت ضيعته التي عكست الحالة العامة حيث الاحتلال العثماني الذي جثم على صدر أمتنا لمدة قرون أربع حيث قال بهذا الخصوص: جدران بيوت الضيعة التي زرعت على تخوم غابة متقهقرة حيث كانت فيما قبل تتماوج أعالي أغصانها مع كل نسمة من صباح ندّية هابطة من ذرا جبال الساحل الشاهقة، وتلك البيوت أو لنقل المنازل بُنيت بشكل بدائي لحمتها الحجارة الغشيمة وسّدتها جذوع الأشجار المتقطعة بوحشية من أحراج وغابات ذلك الزمن المعتم اجتماعياً ومادياً ،وهكذا كان الإرث ثقيلاً على النفوس والعقول وعلى تلك الشاكلة كانت بيوت الضيعة خفيضة جدرانها وطيئة سقوفها يطل ساكنوها على فضاء الكون الرحب وعلى تسلل أشعة الشمس لدقائق معدودة من خلال كوة مرتفعة في أحد الجدران إذ كنّا نتسابق ونحن أطفال للإمساك بالذرات المتحركة ضمن ذلك الشعاع النوراني الذي هو من هبة الله استعصى على يد السلطات العليّة في إسطنبول لإطفائه وأردف المؤلف قائلاً: تلك الزاوية المعتمة أو الصورة التي كانت عليها بيوتنا لم يجهد في بنائها معماري قادر أو مهندس ماهر، جدران أربع لها سقف واهن شاخت ركائزه ومدخل وطئ العتبة له باب يوصد ليلاً، وكوة يتيمة تقتحمها الشمس عجلى نحو مغيبها.. وقدّم المؤلف شرحاً عن هذه المهنة في قريته حيث قال: لم يكن في الضيعة سوى رجل كهل ووحيد ذي صنعة موروثة على حدّ زعم أحد المعمرين من سكانها يدعى أبو مصطفى النجار الذي يقتصر عمله على تركيب باب جديد بدائي الصنعة أو إصلاح آخر قديم، وربما ما تحتاجه بعض المحاريث الخشبية من تقويم أو تبديل لإحدى أجزائها النخرة أو التي أصابها عطب أثناء الحراثة ،أما أدواته فقد وصفها المؤلف بأنها كانت معدودة لا تتعدى المنشار اليدوي المعروف سابقاً وقدوم النجارة والمثقب ( المرينة الخربر) أي المسحج وبعض المسامير المختلفة الأحجام والأطوال وبعض الغراء الذي لم يكن بحاجة إليه في أغلب الأحيان، وحانوته كانت فسحة داره تحت السقيفة شتاء أو تحت ظلّ شجرة في الحاكورة أمام منزله صيفاً، وغالباً لم يكن يتقاضى من الأجر سوى النذر اليسير وفي أغلب الأحيان (الله يسلم يديك ويعطيك العافية) مع وجبة طعام أحياناً وعلى قدّ الحال.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار