الشفافية و الخصوصية …

الوحدة: ٦-٦-٢٠٢٣
يُوصف شكل المجتمع الحالي بأنه مجتمع المجهر الكبير الذي يخضع كل شيء فيه مهما دق و صغر للمراقبة و التحكم و التتبع الدقيق، كما تنعدم فيه و تختفي تماماً خصوصية الفرد
وتتكشف لأنظار العيان خصائص و مُقومات شخصية المرء بحيث يبدو مُجرداً تماماً أمام حدقات أعين الجميع، و لا يخفى بأن القضاء على الخصوصية فيه قضاء على ذاتية الفرد و كرامته و هذا الموضوع هو ما يُميز أبرز خصائص مجتمع المستقبل على الرغم من كل الشعارات المرفوعة و المُنادية بكرامة الإنسان و ضرورة المحافظة عليها و الإعلاء من شأنها، و لعل الهدف الرئيسي من صور المراقبة الصارمة و الشاملة و الشديدة الإحكام تتجاوز مبدأ العقوبة لمن يخرج عن قواعد النظام العام لتُحطم الثقة و الإرادة في النفس و تفرض عليها الطاعة و الالتزام تحقيقاً لهدف المراقبة الشاملة النهائي المُتمحور بفرض الضبط الاجتماعي الراقي، و تثبيت شكل المبادىء القانونية و كذلك الأخلاقية دون الحاجة لاستخدام العنف و هذا هو بالضبط ما سوف تُحققه آليات مستقبل المعلوماتية داخل رحم مجمل المجتمعات المحلية والإقليمية و حتى العالمية و الأممية، و على أي حال فإن المراقبة التي تتخفى وراء شعار الشفافية و تُتيح و تبرر حق التدخل في خصوصيات الناس تحمل في ثناياها بذور السيطرة ﻭ التسلط و سلب الحريات الشخصية و القضاء على الهوية الفردية و يبدو أن هذا هو الاتجاه العام الذي يسير فيه العالم بأجمع بما في ذلك عموم الدول الكبرى التي تعتمد اعتماداً مباشراً و متزايداً على أنماط آليات وسائل المراقبة المختلفة لتوطيد أركانها.
يُعد شعور الناس بأنهم موضوعون تحت المُراقبة و المُتابعة دافعاً للتحفظ في سلوكهم اليومي العادي و يضع قيوداً على تحركاتهم و علاقاتهم حتى لا يُساء فهم ما يصدر عنهم من أفعال و أقوال تُعرضهم للمُساءلة و المُلاحقة القانونية، فانتهاك حق الخصوصية و الخضوع لسلطة الآخرين يتبعه ضياع في بعض الحقوق و تفاقم الشعور بالاغتراب في المجتمع و لذلك يُطالب البعض بعدم الدعوة لقيام مجتمع الشفافية و ضرورة مراعاة حق الخصوصية و تحديد ما يمكن كشفه و ما لا يمكن الكشف عنه للآخرين و إلغاء كل عمليات التوغل في عقول شرائح الناس باستخدام التقنيات الإلكترونية المتقدمة، و بين حق الخصوصية و مبدأ المحافظة عليها و بين الدعوة للشفافية و مبدأ المراقبة و المُتابعة صراع قائم لدرجة الصدام و تظهر تجلياته على أرض الواقع في كل مواقف الحياة ، و تجدر الإشارة إلى أنه أصبح من السهل الميسور التنسيق بين عموم وسائل جمع كل البيانات و تبادلها بسرعة فائقة مما يعني إمكانية نشر أية معلومة على نطاق واسع للغاية مع إتاحة الفرصة لتوظيفها و تسخيرها بعد دراستها و تحليلها في سبيل أغراض مختلفة دون مراعاة لأية قواعد أو قوانين أخلاقية أو اجتماعية تمس خُصوصية الإنسان الفرد و اهتمامات شرائح الناس و عموم الإنسانية ككل.
د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار