العدد: 9276
الثّلاثاء 23-1-2019
رجال وسيدات متأنقات يجلسن بصمت يجلجل في البهو، والجسد قد تساقطت منه أوراق سنين العمر، والروح ما زالت شباباً، سيدات مستعدات للخروج ارتدين الجوخ بأثواب قصيرة وأمسكن بحقائب يد صغيرة، وليكن كبوة قصيرة فيها العينين مغمضتين بغمرة حلم في لقاء حبيب.
شاب في الخمسين يقترب من إحداهن ويجلس على يمينها، يمسك بيدها ويهمس في أذنها أمي، تفتح باب بصرها وتغرق مقلتيها على شاطئ أهدابها، يخرج لينادي المشرفة، فتمسح مقعده وترفع يدها على أنفها لتنفرط دمعة تتدحرج على وجنتيها، يعود إليها وهي للكرى تعود، يرتفع صوت السيدة التي بجانبها وقد تجاوز عمرها التسعين بثلاث سنوات وعلى شفتيها ( ضي القناديل بالشارع الطويل..)
البهو في دار الراحة للمسنين مكان فسيح مرتب ونظيف دافئ وحوله حديقة غناء، يجلس بعضهم على مقاعدها يرتشف قهوة الصباح وينظر بين أوراقها الصفراء عن وجه حبيب بينها، لبس طاقية الخفاء، ودبيب فرح ينضح بالناظرَين.
السيدة سيلفا غرابتي نائب مدير دار الراحة للمسنين أشارت إلى أن الدار بدأت باستقبال النزلاء من المسنين عام 2003، ولديهم اليوم 27 نزيلاً وجميعهم تجاوزت أعمارهم الثمانين ولكنهم يحتفظون بقواهم العقلية والجسدية، وأكثرهم قد تجاوزت مدة إقامتهم 10 أعوام، ولقبول النزيل شروط منها:
أن يكون سورياً ومقيماَ في اللاذقية، بلغ الستين من العمر، فقير وليس له معين ولا معيل أو من تجب نفقته عليه، حسن السلوك وسليم العقل وخالي جسده من الأمراض السارية بشهادة من طبيب مختص، عندها فقط يكون نزيل الدار الذي لن يتخلى عنه أهلها بعد ذلك ولو أصابه وابتلاه الدهر بعلل وأمراض، وهنا أشارت السيدة سيلفا إلى أن بعض النزلاء القادرين والأغنياء يتبرعون للدار ببعض المال ولا يكاد يسد جميع حاجيات نزيلهم.
وأكدت السيدة سيلفا على أن النزيل يستحق من القائمين عليه مشرفين وعاملين كل رعاية واهتمام، فهم مسؤولون عن سلامتهم وتغذيتهم ونظافتهم وغيرها وحتى أنهم يسهرون على راحتهم، وقالت: يمكن للنزيل أن يمارس أي عمل يرغبه شرط أن يتناسب مع ظروفه الصحية ويخصص لذلك غرفة، كما يتناول المسنون طعامهم في مكان خاص ويراعى فيه أن يكون محتوياً على المواد الغذائية الضرورية وملائماً لحالتهم الصحية، ولدينا طبيب يعاين المسنين يوم واحد في الأسبوع وعندما يدعو الأمر استدعاؤه، و الدار يتضمن ثلاثة طوابق وفي كل منها مشرفة مسؤولة عن المسنين الساكنين فيه, ويبلغ عدد العاملين والموظفين في الدار 14موظفاً بينهم طباختين، وغيرهم للتنظيف والرعاية والغسيل و.. وكان في زيارة السيدة أسماء الأسد للدار أن طلبنا بحل لمشاكلنا الاقتصادية جاء في بناء طابقين لأجل الاستثمار فكان في تأجير غرفه لسكن الطالبات الجامعيات، وهو ما عاد على الدار بتامين حاجيات المسنين وتوفير مستلزمات عيشهم ليكونوا بأمان.
واختتمت حديثها وكلها رجاء في قولها: (كنت أميناً على القليل، وسأقيمكم على الكثير)
دار الرحمة للمسنين هي مركز تابع لجمعية الرحمة المسيحية القروية التي تأسست وأشهرت عام 1941 تحت شعار ( كون عوناً للفقير) (وطوبى للرحماء فإنهم يرحمون)، ندخل المطبخ وكله نظافة وشياكة وترتيب، بورسلان وسيراميك يلمع ورائحة شهية تنضح بالمكان، كما وجوه طيبة لنسوة يقسمن الطعام في أطباق ..
دعد نعمة مشرفة أكدت بأنها سعيدة مع هؤلاء الآباء وتعدهم أهلها وهي التي فقدتهم منذ مدة طويلة، ولديها أولاد ولكنها لا تكفل آخرتها، فما رأته في الدار يدفعها لقول ذلك، حيث أن أغلبهم لديهم أبناء ميسوري الحال لكنهم أتوا بهم للدار وخرجوا من بابه مطمئنين، فكان من الواجب عليها أن ترعاهم وتحادثهم ليأنسوا لها فتكسر حاجز وحدتهم ووحشة مكان بعيد عن بيوتهم وسكانها، والحمد لله تجدهم شاكرين وقد ألفوا المكان الذي شكلوا في العائلة الكبيرة لدار الرحمة ..
وأيدتها الرأي والقول السيدة هيلانة فرح مشرفة على الطابق الثالث رجال أشارت إلى أنها عاملة في الدار منذ عشر سنوات وقالت: إجمالاً هم هادئون وشكورون، ويجب احترامهم وتقديرهم رجال كبار كان لهم مكانتهم الاجتماعية والوظيفية، وأنا أسايرهم وأتساير معهم وأخذ من معارفهم وخبراتهم الحياتية وتجاربهم، فالإنسان يتطور عندما يستفيد من تجارب الآخرين ويزيدها بما لديه من معارف، وأراهم أشخاصاً واعيين وأحاديثهم جميلة وممتعة، لكن بعضهم قد ينسى ويرتبك عليه الأمر في بعض الأحيان، آتي من الثامنة صباحاً وحتى الثانية ظهراً والراتب معقول يساعدنا لتلبية بعض حاجيات الأولاد، وتابعت: أترك كباراً هنا لألقى من ينتظرني في البيت وهي حماتي وهناي إنسانة رائعة وطيوبة وكلامها حلو تصبح علينا وتمسينا، وجارتي تحسدني عليها ولطالما سألتني: ماذا تفعلين لتجعلي حماتك تحبك بهذا القدر؟
الماما ابتسام أقدم عاملة في الدار فهي أتت للجمعية منذ 2001 وقدمت للعمل في الدار عند افتتاحه في 2003، عندها أولاد وأحفاد وهي جداً سعيدة بعملها، تطبخ وتحضر الوجبات لنزلاء الدار، وتكون قد وضعت قائمة لها قبل إعدادها لأخذ موافقات الإدارة والقائمين عليها، وهم يقدرون ويطرحون ما يلاءم الوضع، والحمد لله كل شيء يجري بيسر وخير، وأرجو من الله أن يديم علينا الصحة وهي كنزنا لنستمر بالمساعدة والعمل وحسنة عن أولادنا (وعند الله ما بضيع شي) ونتبارك بهم فهم بمثابة آبائنا ويشكلون عائلة لنا ورحمة لنا عند الله، اليوم صنعت لهم الفطائر بالقريشة والشوربة وألف صحة وهنا على قلوبهم الصادقة.