الوحدة : 5-10-2022
تقدمت في عصر تكنولوجيا الصورة كل الأشكال الثقافية لتصبح تعبيراً أو أداة في تشكيل مشاهد الحياة المعاصرة، وعلى الرغم من أن الكتابة هي ضرب من ضروب التصوير بالخط و الرسم بالأشكال و تندرج ضمن فضاء الخطاب البصري إلا أنها لم تعد معياراً للتمييز بين الثقافة الشفوية و الحضارة في ظل عالم الصورة الذي مثل تقاطعاً واضحاً بين الأنماط الإنتاجية و الاستهلاكية، و لايخفى على أحد بأن التنافس الحاد من أجل الهيمنة على ثقافة العين و استلابها بالصورة أضفى طابعاً من الرفاهية السحرية و الرخاء المادي و أدى بالإنسان إلى الانقياد و التسليم التام في مواجهة ذلك، و مما لا شك فيه بأن روحية الخطاب البصري أبلغ تأثيراً من كافة الخطابات الأخرى في الفرد، وأيضاً المجتمع و نظراً لخطورة الصورة و فتنتها، فقد اشتد التنافس بين شتى وسائل الإعلام المرئية و المسموعة من أجل الإثارة و خرق المُحرمات بكل أشكالها و مختلف صورها و كذلك انتهاك حُرمة الحياة الشخصية للفرد و المجتمع و عرضها على الملأ بحجة حق الإنسان في الإعلام و معرفة الحقيقة الناصعة والواقع الحي المعاصر. إذا كانت الكتابة تُمثل حضارة ترتيب الحروف ترتيباً خطياً مع بلاغة الوضوح في التمييز بين وحداتها ( الحرف و الكلمة و الجملة )، فإن الصورة لا تخضع للنسق و التمييز لأنها أحياناً باقة منوعة من الصور المتنافرة في فيض رسالة إخبارية بزمن محدود. والكتابة تتجه إلى الفرد و الصورة تُخاطب جموع الناس و هذا التحليل يُفضي إلى خلاصة في غاية الأهمية للتمييز بين ثقافة الكتابة و حضارة الصورة مفادها أن الكتابة تُؤطرها النزعة الفردية. وأما الصورة فيصنعها فريق من الناس، و تتلقاها مجموعة مشاهدين في لحظة زمنية واحدة،وتجدر الإشارة إلى ميل الإعلام في الوقت الراهن إلى إشباع حاجات المُتلقي و إرضاء رغباته و تلبية طلباته و هذا لا يتم إلا بإنجاز صناعة إعلامية متكاملة يكون فيها للصورة الحظ الوفير في مجال التأثير بإفساح المجال للمزيد من التجانس الإبداعي في الميادين الإعلامية و الثقافية و الاقتصادية و حتى الاجتماعية. تُراهن الصورة على البعد الأيقوني للواقع الذي يتحول من المجرد إلى المحسوس و من اللامعقول إلى المعقول ليتجلى الواقع في صور خيالية عديدة تُضفي عليها القوى الإبداعية الخلاقة للإنسان سمات سحرية و أسطورية و في هذه النقطة تحديداً تكمن خطورة الصورة في تحويل الواقع إلى عالم من اللهو و اللعب يُبهج العين و يفتنها و يُخيل للمرء عندها بأن هذا الواقع لم يسبق له أن رآه على الرغم من أنه عالم مألوف و غارق في الرتابة اليومية. وهكذا اختلط الواقع بالوهم و تلاشت الحدود بينهما و ضاعت مصداقية الصورة،ولم تعد حاملة لخطاب الحقيقة و لكنها ما زالت تحتفظ بتخيلها العجيب و حلمها الرهيب لتجمع بين الواقعي و الخيالي و الرمزي و تمزج بين التقليدي و التحديثي.
د. بشار عيسى