أبو ريحان البيروني .. موسوعة المعارف و نابغة العلماء

الوحدة :5-9-2022

تكرِّمُ البلدان التي تستند إلى ماضٍ عريقٍ مفكريها، كي يحجزوا مكاناً أبدياً في ذاكرة أجيالها المتعاقبة، فالأسلاف هم العقل المُحفِّرُ لنهضة الأمم، والأمة التي تنسى مفكريها، ستجعلُ نفسها حتماً طيَّ النسيان، ومن هنا تستمدُّ إيران عظمتها وتستنهض هِمَمَ أجيالها بتنمية شعور الارتباط، وبتكريمٍ سنويٍّ لعلماءِ بلادِ فارس، ولعلَّ من أشهرهم، أبو ريحان البيروني. البيروني من تلك البلاد التي لو كان العالم الإسلامي شجرة، لكان علماؤها زهورها المتفتحة، إنها بلاد فارس التي عاش فيها البيروني في القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، ولد عام 973 ــ 363هـ/ في خوارزم وتوفي عام 1048م ــ 440هـ في مدينة غزنة، و برع في الرياضيات والفلسفة والفيزياء والجغرافيا والصيدلة والتاريخ والفلك، وكان نجاحه سريعاً وهائلاً، فتغلغلت أفكارُه القادمة من الشرق في كلِّ العالم الإسلامي عموماً، والمنطقة العربية خصوصاً، فكانت تلك الأفكار واحةً في صحاري كثيرة خالية من الواحات.

امتاز البيروني بموهبةِ الجد والمثابرة، فأثبتَ دوران الأرض حول محورها، كما وضع قواعد علم الميكانيك، وأوجد معادلةً لقياس محيط الأرض، وحدَّد كميةَ الذهب والفضة في المواد الصلبة، فكان تصوره العلمي الذكي، نوع من الترف العقلي المؤسس والصالح لبناء أي حضارة.

آمن البيروني أن العلم مظهرٌ من مظاهرِ الاهتمام بالإنسان، فكان شخصاً عابراً للشعوب واللغات، اهتم بالأديان وتاريخها وتعاليمها، كالزرادشتية والهندوسية والبوذية والمسيحية والإسلامية، وحاولَ فهم معتنقيها، دونَ أن يحجبَ حياديتَهُ تعصب، أو أن يعاكسَ شغفَهُ بالعلم انتماء.

زار العديد من البلدان وبادَلها المودَّة، أتقن لغاتٍ عديدةً كالخوارزمية والفارسية والعربية والسنسكريتية، وكان على دراية باليونانية القديمة والعبرية والسريانية.

ومَنْ تعلَّمَ لغةَ قومٍ أحبَّهم، فبادلوه الحب والاحترام، كتب في الأدب وشرح في الفلسفة، و أعملَ العقلَ في حسمِ كل المسائل عنده، فكان نعم السفير للعلم والإنسانية.

أغنى البيروني متحف التاريخ، كان من الطبيعي أن تُسمَّى باسمه العديد من الساحات والمؤسسات والجامعات، حتى أن إحدى الفوَّهات القمرية قد أطلق عليها اسم البيروني، تقديراً لإسهاماته العلمية، فقد رأى الأوربيون فيه واحداً من أكبر العقليات العلمية في التاريخ، و أحدَ أعظم العلماء الذين ظهروا على مرِّ العصور.

عاصر البيروني أشهر الحكام، وكان من أبرزهم السلطان محمود الغزنوي؛ الذي يعدُّ أول من أُطلِق عليه لقب سلطان؛ وكان يحترم سعة علم البيروني، و يُروى أنه كان يجلس ذات يومٍ في قصره الكبير ببواباته الأربعة وأزهاره الألف، فأراد تجريبَ حدسِ البيروني ومعرفتهِ بطبيعة شخصية الآخرين، فطلب منه توقُّع البوابة التي سيقصدها السلطان للخروج من القصر، فكتب البيروني ورقة ووضعها تحت وسادته.

أمر السلطان بإحداث ثغرة في الجدار كي يخرج منها، ثم طلب رؤية ما كتبه البيروني، وتفاجأ عندما علم أن البيروني قد كتب: “لن يخرج السلطان من أحد الأبواب الأربعة، بل سيُحدث ثغرةً في الجدار الشرقي ليدلفَ منها خارج القصر”، اندهش السلطان وكرَّر تجربةً مماثلة، فكان أن صدَقَ توقعُ البيروني مرةً أخرى، فغضبَ السلطان وأمر بسجنه، لكن بعد مُدَّة قصيرة، انتصر العلم، وأطلق سراح البيروني تقديراً لذكائه وعلمه، وخرج هذا العالم الجليل مُحمَّلاً بالهدايا النفيسة المقدَّمة من السلطان محمود. يمكن وصف البيروني بأنه كان صاحبَ موهبةٍ فذَّة، غزيرَ المعرفة، واسعَ الاطلاع، واضحَ الهدف، دقيقاً في النقد، شجاعاً ومقداماً، لا يحجم عن كَيلِ الضربات القاصمة، إذا رأى الخيرَ تجتاحُهُ جائحة، أو الحقَّ تنزلُ به نازلة، ومن أهم آثاره الخالدة : كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ، التفهيم في صناعة التنجيم، قانون المسعودي، وكتاب عن الأحجار الكريمة، وله كتب ومؤلفات أخرى.

ففي الأدب له شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار، والآثار، وفي الفلسفة له كتاب المقالات والآراء والديانات، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، وله في الجغرافيا كتاب تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وكتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، وفي التاريخ له كتاب تصحيح التواريخ، وفي الفلك ألّف كتاب الاستشهاد باختلاف الأرصاد وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وفي علم الرياضيات له كتاب استخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مرتاب الحساب، وله أيضاً كتاب الأرقام.

وحتماً لن يجود الزمان بمثل البيروني إلا فيما ندر.

مازن سعيد البودي

دكتور في التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة تشرين


تصفح المزيد..
آخر الأخبار