(البير).. تراث خدمي مجاني مُهمل

الوحدة:5-6-2022

بعد موسم مطري جيّد تشبّعت من خلاله التربة والمسطحات المائية الطبيعية والاصطناعية، تعود الاستغاثات من هنا وهناك نقص وشحّ مياه، نواقيس العطش بدأت تنادي، خلف تلك التلال والجبال البعيدة وأحياء المدينة المترامية، انتشار صباحي كثيف على الأسطح لتفقّد مناسيب خزانات المياه والوقوف على ما يفعله التقنين الكهربائي وضخّ المياه، ففي زحمة ما تعانيه حوارينا ومجتمعاتنا خلال فترة الصيف من أمور تنغّص مجريات وتفاصيل الحياة اليومية لا بد من استرجاع بعض الذكريات لآباء وأجداد أميين كانت المياه ووجودها همّهم الأخير، حضارة الكهرباء وشبكات المياه والهواتف لم تصل حينها ولا حتى الطرق الزفتية، قرى وتجمّعات مقطوعة عن العوالم المحيطة كانت الأصوات الّليلية وصداها هي قانون التواصل الوحيد بين أهالي القرى المتناثرة ..

وحول المياه والحاجة الماسّة لها هناك، كانت أغلب المنازل متآخية مع بئر عربي (بير) محفور بدقّة عالية لأعماق مختلفة واتساعات دائرية من الصّعب تقليد تلك الهندسة في أساليب البناء وهي على الغالب مُقتبسة من حضارات وأفكار رومانية قديمة مارقة كانت تسكن هذه الديار فتمّت عمليات التقليد بأساليب أيسر وأفضل، حيث يكون قعر البير واسعاً يأخذ بالتضيّق التدريجي للأعلى بشكل بيضوي وعمارة هندسية خالصة حتّى يصل إلى فتحته الرئيسية التي لا تتعدّى المتر المربع، فكانت تتجلّى عملية التخزين عبر انتظار موسم الأمطار بعد إنشاء مساحة بيتونية دائرية مائلة باتجاه فتحة البير لتنساب مياه الأمطار عبر فتحة جانبية فتتمّ عملية تخزين ما تجود به نعمة السماء، ليكون ذلك كخزّان بارد لمياه نقية عذبة تكفي معظم أيام الصيف الحار، يساعد تلك المهمة توفّر مياه الينابيع الموزّعة بين الوديان دائمة الجريان تستعين بها غالبية سكان القرى المجاورة فتنقلها الدواب بواسطة (الراوي الأسود( ذلك الجلد الأسود السميك المصنوع ليناسب جسد الدابّة، مٌحاك بعناية فائقة بخيط القنّب القوي لتخزين المياه لغايات الغسيل والجلي وغيره، وعلى تلك المصطبة الترابية تتربّع خابية كبيرة مصنوعة من الفخّار تلبس رداء الخيش الذي يساعد على بقاء برودة المياه فيها بعد تعبئتها من مياه البير، لتكون تلك المياه غاية بالعذوبة ولذّة الطّعم، وهذه أحدى أهم المبتكرات التي ساعدت على تخطّي العطش وحاجة المياه ضمن قرى وتجمّعات بعيدة نائية، والآن هذه العادات والقيم سقطت أسفل ذلك البير إلى جانب السطل المعدني وحبله المقطوع، لتتم عملية الرّدم من قِبل طلاب الحضارة المزيّفة الذين يعانون العطش الآن نتيجة التخلّي عن القيم الأصيلة والسعي خلف التمدّن وانتظار مياه الشبكات التي تضيع ضمن شبكة معقّدة لتجمعات كثيرة مترامية وهروب مياه الشرب لغايات الري وبالتالي حرمان الغير، وهنا تكمن الحاجة والعودة إلى الزمن الغابر والاستفادة من تجارب القدماء في تدبير أكثر الأمور تعقيداً وجعلها بمتناول الجميع.

سليمان حسين

تصفح المزيد..
آخر الأخبار