الوحدة 15-5-2022
في مثل هذا اليوم يحتفي الإيرانيون في كل عام بإحياء ذكرى شاعرٍ من أعظم شعراء الفارسية على الإطلاق؛ ألا و هو الشاعر الحكيم أبو القاسم الفردوسي، الذي يسطع اسمه بين كبار الشعراء الإيرانيين كأبرز شاعر في نظم الملاحم الشعرية الفارسية.. بل و يُعتبر – و دون مبالغة – من ألمع شعراء الملاحم البطولية والأساطير التاريخية على المستوى العالمي،مما جعله يحظى عبر العصور بأسماء وألقاب عديدة؛ فهو «هوميروس إيران» و«أبو الشعر الفارسي» و«محيي ثقافة إيران ولغتها» و «شاعر الحرية» و «الشاعر الحكيم»، وألقاب أخرى عديدة أُطلقت عليه؛ إلا أن اسمه الحقيقي هو أبو القاسم منصور بن حسن بن شرف شاه الملقَّب بالفردوسي. و قد أمضى الفردوسي سنوات شبابه في تتبع أخبار تاريخ ملوك إيران ، وسِيَرِهِم المتناثرة في المصادر المكتوبة ولاسيما كتاب « خداي نامه » الذي ترجمه ابن المقفع إلى العربية تحت عنوان « تاريخ الرسل والملوك » وكان مرجعاً أساسياً للمؤرخين المسلمين فيما بعد ؛ كالطبري والدينوري والبيروني والثعالبي .
كما قرأ الفردوسي الشاهنامات النثرية السابقة كشاهنامة أبو المؤيد البلخي، و شاهنامة أبو علي البلخي, وشاهنامة أبو منصوري، و من ناحية أخرى اطَّلعَ على الروايات الشفهية للحكايات والأحداث الحماسية الإيرانية القديمة.
وإلى جانب إلمامه بالثقافة الفارسية وتاريخها كان الفردوسي متبحراً في الأدب العربي والثقافة الإسلامية والفلسفة والبلاغة و علوم الكلام ..
وهذا واضحٌ في أشعارَهُ، و لكن النقطة المفصلية في سيرة هذا الشاعر الكبير كانت عندما توفي الشاعر(دقيقي ) بعد أن كان الأخير قد شرع بنظم شاهنامته، ولم يكن قد نظم منها سوى ألف بيت تقريباً، الأمر الذي حرَّك مشاعر الفردوسي ودفعه لإكمال مشروع الشاعر ( دقيقي ) ، وفعلاً بدأ بالنظم عام ۳۷۰هـ، وامتد به المطاف في نظمها لأكثر من ثلاثين عاماً،كان نتيجتها هذا السِّفْرُ العظيم الذي يحوي أكثر من ستين ألف بيت .
و “الشاهنامة” لغوياً تعني كتاب الملوك، ولا يجانبنا الصواب إذا ما أسميناها كتاب العقل والحكمة والفلسفة والعشق واللغة والتاريخ والعبرة والإعجاز, وحقاً إن المتبحر في أعماق هذا البحر يدرك مدى العبقرية الفردوسية التي انعكست في شتى جوانب هذا الأثر ، سواء في شكلِهِ أو مضمونِهِ أو روحِهِ . إن الشاهنامة تعرض لحياة خمسين ملكاً يمتدُّون على ثلاث سلاسل من الحكومات هي: البيشدادية و الاشكانية و الساسانية ، وفق ثلاث مراحل هي: المرحلة الأسطورية، و المرحلة البطولية الحماسية، والمرحلة التاريخية. وتتضمن هذه الملحمة الشعرية القصص والأساطير الوطنية ، وتسجيلاً للأحداث التاريخية التي عصفت بإيران منذ بداية الحضارة الإيرانية القديمة، وحتى اضمحلال السلالة الساسانية.
و قد نظمها الفردوسي على شكل شعرٍ عمودي مقفّى بموسيقا مُرهفة، و هي تضم كما هو معروف روائع الأبيات الشعرية التي تسجّل الملاحم التاريخية والأدبية العريقة والتقاليد والسنن والعقائد الإيرانية القديمة ، أي أنها تتضمن الثقافة القديمة والخالدة للشعب الإيراني خلال قرون سحيقة وعهود طويلة.وكذلك فهي تتضمن العديد من الموضوعات والجوانب الأخلاقية والدينية والاجتماعية المليئة بالعبر والدروس التربوية لبني الإنسان، ويمكننا اعتبار أقسام لا بأس بها من هذه الملحمة مُشبعةً بالدروس والحكم الأخلاقية المفيدة لتهذيب الأخلاق وتنقية الأذهان وتوعية العقول وإيقاظ الأفكار.
و قد كان الفردوسي من المؤمنين العارفين بالقرآن والأحاديث الشريفة وبمبادئ الأخلاق الإسلامية ، لذلك فإنّه اتخذ من الأخلاق الإسلامية والمكارم والفضائل الأخلاقية منطلقاً لعمله،ومَطْلَعاً لأكثر مقطوعاته الشعرية ، كما يبدو ذلك في هذه الأبيات الرائعة التي افتتح بها ملحمته الشعرية ( الشاهنامة ) ، حيث يقول ما معناه :
باسم الله خالق الحياة والعقل ، الله الذي يرزق ويهدي، الله رب الكون ، والنور الأزلي ، وأعلى من التصور في الخيال ، لابد للإنسان أن يعبد الله لأنّه أهل للعبادة.
وفي مكانٍ آخر من الملحمة ، وفي إثباته للتوحيد، و في وجوب عبادة الواحد الأحد ، ورفضه لاحتجاجات الماديين من أدعياء الحكمةوالفلسفة، وبأسلوب بسيط وجريء نراه يقول ما معناه : [أيها المتفلسف الثرثار،لن أسلك طريقك الذي توصيني به ، لأنه لا عقيدة أفضل من التوحيد ، حيث أن الله واحد شئت أم أبيت ، إنك تقبل الشيء الذي تراه ، وأعلم أن الله هو غير الذي تفكر به أنت ، حيث الله الأحد ، وأن عقيدة التوحيد هي الأصالة دون غيرها] . إن شاهنامة الفردوسي لا تعد أكبر و أغنى ديوان شعري وصل إلينا من العهد الساماني فحسب ، بل هي في الواقع أهم وثيقة تتحدث عن عظمة اللغة الفارسية ، وأكبر شاهد على ازدهار الحضارة الإيرانية العريقة . لقد قال المستشرق الانكليزي كوويل في الشاهنامة : (( ذكر أغوست امبراطور روما أنه عندما استلم روما كانت كلها من الآجر، و عندما سلّمها كانت من المرمر . الفردوسي كذلك وجد بلده تقريباً بدون آداب مدوَّنة و منسَّقة فسلّم إليه الشاهنامة التي لم يستطع الأدباء من بعده سوى محاولة تقليدها ، دون أن يتفوق أحد عليها . إنها ملحمة بإمكانها أن تنافس كل أثر ، و لا نظير لها في آسيا بأسرها ، مثلما هو حال ملاحم هوميروس في أوروبا ) . و الشاهنامة فضلاً عن أنها أفضل و أسمى نموذج للفصاحة الأدبية الشعرية ، فإنها تُعدُّ أيضاً إماماً في النظم و النثر الفارسيين، كما أنها وثَّقت مختلف جوانب الحياة، فصوَّرتْ لنا بريشة فنان ماهر أبرز المراسم والآداب الفارسية القديمة كالزواج، و الاحتفالات، و مآدب الضيافة، و آداب السفارة، و مراسم الصيد، والخطط الحربية، و كيفية معاملة الأسرى، و مراسم التأبين، وأسلوب كتابة الرسائل،و علاقات الشعوب القديمة ببعضها ، وغيرها من الأمور التي لا يتسع المجال لذكرها .
مما لا يدع مجالاً للشك في نبوغ الفردوسي وكفاءته وموهبته الشعرية الفريدة التي أهَّلتهُ لِـيتَبوَّأ المكانة المرموقة التي يستحقها في تاريخ الأدب والثقافة في إيران و العالم، و ليصبح خالداً على مر العصور.
الملحق الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في اللاذقية أ.علي رضا فدوي