الوحدة 9-5-2022
هناك من يتهم الحداثة بأنها تدعو إلى الإطاحة باللغة شكلاً وأسلوباً وتعبيراً، إضافة إلى تخريب الذاكرة، و تدمير القوانين. وعلى الطرف الآخر هناك من يؤيد الحداثة، و يعتبرها ضرورة ملحّة، و حتمية لصيرورة الواقع بكل مستجداته و مفرداته. هذا الموضوع طرحناه على بساط البحث مع مختصين بهذا الشأن .فكان الآتي..
* الدكتورة الأديبة غيثاء قادرة، قالت : ليس خافياً أن إشكالية التراث – الحداثة هي مارسمت أركان المشهد الثقافي في الكتابة العربية الراهنة، بداية لنحدد مفهوم الحداثة: فهي في مضمونها اللغوي تعني نقيض القديم، والحداثة أول الأمر وابتداؤه، أما في الاصطلاح فاتجاه فكري جديد، يحمل جذوره وأصوله من الغرب، اتجاه يشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع يخص الحياة الإنسانية. يعد بودلير مؤسس تيار الحداثة من الناحية الفنية الأدبية، وهو من نادى بالغموض في الأحاسيس والمشاعر والفكر. ومما لا جدال فيه أن الحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول على الغموض وتغيير اللغة، والتخلص من الموروث بكل أشكاله، وأجناسه، والتجاوز للسائد والنمطي. عرّفها رولان بارت بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : ” في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة، وكثافة مدهشة أفكاراً جديدة، وأشكالاً غير مألوفة، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة، فيقبل بعض الناس منبهراً بها، ويقف بعضهم الآخر خائفاً منها، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها، ولكنه يغرق أيضاً “. ويصفها بعض الباحثين الغربيين ” بأنها زلزلة حضارية عنيفةوانقلاب ثقافي شامل وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة “. بدأت إرهاصاتها المبكرة منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي ” بودلير ” الفرنسي صاحب ديوان ” أزهار الشر”. وفي واقعنا الأدبي ثمة من يرفض الحداثة الشعرية، ولاسيما قصيدة النثر، مطالباً بضرورة خروجها من دائرة الشعر، فعلى الرغم من أنها تمتلك شرعيتها ماتزال قصيدة النثر مطروحة للنقاش بين قبولها جنساً أدبياً تحدُّه الشعرية، ويحاكيه الخيال، وبين تطفلها وقائليها على عالم الشعر،وفق مايراه معارضوها. وفي الحقيقة ؛ إن الصراع القائم بين قابل لها مشرِّع وجودها. ورافض لها مشكك بشعريتها ليس إلا تجسيداً للصراع بين متضادات الحياة ومتناقضاتها، منذ بدأت الحياة، كالصراع بين الوجود والعدم، بين البقاء والفناء، وعلى مستوى الأدب بين الشعر والنثر، وعلى مستوى الشعر بين الشعر الموزون وقصيدة النثر. وهذا الصراع هو الذي يعطي الطرفين وجوداً رغم حبِّ الطرف الأول.. الآخر . و لايحيد الحديث عن قصيدة النثر عن موقفي القبول المطلق المتحرر من شعرائها، ومن المؤمنين بقيم التجريب ومايداخله من تخريب أحياناً، والرفض المتحدِّر من سلفية ثقافية لاتملك رؤية نقدية تستجيب لمجمل التبدلات التي طالت أشكال التفكير ومقولاته في العالم. وممالاشك فيه أن التصدع في تلقي قصيدة النثر ناجم عن تصور بعضهم بأنها شعر ناقص،أو لاتمت إلى الشعر بصلة. فقد رأى بعضهم في الحداثة الشعرية معولاً يهدم البناء اللغوي للغة الشعرية في القصيدة القديمة، منقطعاً عن القوانين وقواعد اللغة التقليدية، وأخذ هذا الهدم بتفكيك المفردة القديمة بكيانها المعهود، وكانت الإرادة واضحة لدى المحدثين في إعادة البناء على أرضية جديدة مستندين على قوانين الشعرية في تقديم الصورة وعنصر الخيال في المجاز. أستطيع القول:إن أدب الحداثة موجود بقوة الدفع وبقوة التطور.. فقصيدة النثر التي تفتقر إلى الوزن والقافية لم تخرج من فضاء الشعر.. فالشعر والنثر يجتمعان في فضاء واحد،يجمعهما جوهر واحد هو اللغة التي هي مادة التشكيل. والنثر الفني تشكيل جمالي باللغة، يفصح عن واقع ثقافي. وليس الشكل الخليلي مقياساً للشعرية البتة . فمانسمعه ومانقرؤه من قصائد نثرية تثير صورها في ذواتنا دهشة، بقدر ما تروي فينا عطشاً نفسياً ما..وإحساساً بالجمال تحمله الفكرة المقدمة الظاهرة في الصورة و المضمرة، وبقدر ماتخلقه فجوات التوتر في انزياحات اللغة ومعناها يؤكد أن ماندركه من مصفوفات الصور المجازية المسوَّرة بخيال والمقدمة بشعرية .. إنما هو الشعر بعينه. إن كل مافعلته قصيدة النثر بنظر بعض المتمسكين بالقديم أنها اخترقت جدار الفصاحة الكلاسيكية المهيب. وثارت على جسد التراكيب اللغوية محطمة الشكل و التسمية. وللأسف الشديد مازلنا نشهد في كثير من أمسياتنا الشعرية وظهرياتنا ثورات على قصيدة النثر يترجمها جدال طويل عقيم لاينم على رؤى ولاعلى فكر حداثوي بحجة الانتصار للتراث شكلاً لامضموناً. * الدكتورة الأديبة : وضحى يونس، قالت : الحداثة عندي في أبسط معانيها هي التصالح مع الزمن، وعي مجريات العصر على الصعيد العالمي و انعكاسه محلياً. الحداثة هي فهم ما يجري حولنا و نقده، الحداثة توجه فكري إنساني عالمي يميل إلى التحرر من قيود الماضي و خلع عباءة الأجداد مع محبتهم و احترامهم، الحداثة أدبياً هي الاشتغال على اللغة. هي حداثة الأسلوب و الأفكار. فالحداثة شاملة يتواشج فيها الأدب مع العلم و الحداثة على صعيد الشكل و المضمون فهما على درجة واحدة من الأهمية. خطاب الحداثة معتدل لا مكان فيه للتطرف و هو خطاب إنساني شامل و الحداثة مفهوم مفتوح و ليس مغلقاً أبداً لا يعترف بالحدود. فتتقارب الأجناس الأدبية و يأخذ بعضها من بعض مع احتفاظ كل جنس بهويته و سماته الأساسية. و تؤسس الحداثة مفهومها بتجديد ما هو قديم و الاختيار منه و تطعيمه بعناصر جديدة. الفيلسوف هيغل من أوائل من اهتموا بمفهوم الحداثة و اللافت أنه ربطه بتطور الفكر .و لذلك هي كسر للصور النمطية و علينا تقبل هذا بوعي و تطبيقه على كل جوانب الحياة مثل الاجتماع و الاقتصاد و الثقافة و التربية و التعليم لكي تنتقل آلياً إلى الأدب.
رفيدة يونس أحمد