الوحدة: 23-3-2022
التراث الحضاري الإيراني العريق غنيٌّ بالعديد من المناسبات و الاحتفالات السنوية التي يفوح منها عَبَقُ التاريخ المجيد، و قد تميزت هذه الاحتفالات بخصوصية ثقافية للشعب الإيراني و لكل الشعوب المتأثرة بالحضارة و الثقافة الفارسية، هذه الثقافة التي رفدت الإرث الثقافي الإنساني بعادات و تقاليد لها نكهتها المشرقية الخاصة، ومن أبرز تلك المناسبات “عيد رأس السنة الإيرانية” أو “عيد النوروز”،
وتعود تقاليد الإيرانيين في الاحتفال بهذا العيد إلى العصر الساساني الذي بدأ فيه التأريخ للسنة الفارسية في اللحظة التي يتساوى فيها الليل والنهار (21 آذار / مارس)، و النوروز كلمة فارسية أو تعبير فارسي يتكون من كلمتين، الأولى ( نو ) بمعنى جديد والثانية( روز ) بمعنى يوم، فتكون العبارة (اليوم الجديد)، والاحتفال بهذا العيد مقرون بالعظمة والمراسم العديدة، وتتجلى هذه العظمة في التراث الإيراني الخالد من النتاجات الأدبية والفنية المتعددة والتي تتوزع على اللغتين العربية والفارسية، ومن أقدم وأعظم المصادر التاريخية التي تناولت النوروز وعاداته كتاب ” الآثار الباقية ” لأبي ريحان البيروني العالم الإيراني المتوفي في عام ٤٤۰ هـ حيث كتب البيروني في كتابه ذاك يقول: ” السنة عند الفرس على أربعة فصول، وكان لهم في كل فصل من تلك الفصول عيد؛ ومن بين هذه الأعياد، عيد اليوم الأول من فروردين أو عيد النوروز وهو عيد عظيم جداً لأنه عيد إحياء الطبيعة”.
و قد ورد ذكره كثيراً في قصائد كبار الشعراء العرب من أمثال الشاعر البحتري الذي و صف الربيع في قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها :
أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً من الحُسنِ حتى كادَ أن يتكلَّما
وقد نبَّـهَ النوروزُ في غَلَسِ الدُجى أوائــلَ وَرْدٍ كـُـنَّ بـالأمــسِ نـُوَّمـا
و على الرغم من مرور آلاف السنين على بداية الاحتفال بهذا العيد إلى أنه لم يـبلَ ولم يندثر، ولقد حظي هذا العيد بالتأييد من قبل جميع الأقوام والأديان المختلفة في إيران، ومن هنا فإن النوروز اليوم هو من مظاهر الوحدة لدى الشعب الإيراني، وإن اختلفت قومياته وأديانه وثقافاته وألسنته. وبعد أن أشرقت شمس الإسلام على أرض إيران، تعاملَ هذا الدين بوداعة مع سائر الأديان والعادات والتقاليد الإيرانية ، الأمر الذي جعل تلك العادات لا تندثرُ بالكامل، و لكنه وضع هذه العادات العريقة في قالَب إسلامي جديد، حيث زينتها السنن الإسلامية وزادتها عظمةً وبهاءً . إن دخولَ الإسلام إلى إيران وامتدادَهُ إلى نطاقٍ واسع في شبه القارةِ الهندية حتى شمالِ افريقيا؛ قد فسحَ المجالَ أمام النوروز كي يصبح متداولاً لدى شعوبٍ وأقوامٍ أخرى غير الإيرانيين، و اليوم يَحتفِل بعيد النوروز أكثر من 300 مليون إنسان ، فهو عيدٌ لكلِّ الأديان والشعوب المتأثرة بالتراثِ و الثقافةِ الفارسية ، مثل أفغانستان وباكستان وطاجكستان والهند ودول آسيا الوسطى وبلاد القوقاز ، بالإضافة إلى مناطقَ كبيرةٍ في تركيا والعراق وفي غيرها من المناطق و البلدان . و يعتبر النوروز من أهم الأعياد الوطنية لدى الإيرانيين باعتباره جزءاً من الهوية القومية الفارسية التي تجمعهم حول مائدة واحدة على اختلاف أعراقهم وأديانهم من مسلمين ومسيحيين ويهود وأتباع باقي الديانات الأخرى كالزرادشتية وغيرها ، فيقومون بتبادل التهاني بهذه المناسبة المبهجة المتزامنة مع أول أيام الربيع، حيث أنهم اعتادوا على استقبال الربيع وسنتهم الجديدة بعدة طقوس تبدأ بحملة تجديد المنزل التي تسمى بالفارسية “خانه تكاني”، وتقوم فيها الأسر بإعادة ترتيب وتأثيث محل السكن، والاستغناء عن الأشياء البالية، وغسل السجاد والستائر أو استبدالها، مع طلاء الجدران بألوان جديدة، وفي الغالب يتم اختيار مشتقات اللون الأخضر تناغماً مع اخضرار الأرض في فصل الربيع، وتمتد الحملة إلى تنظيف الأزقـَّة والحارات بصورة جماعية، وتترافق معها حركة تبضُّع على نطاق اجتماعي واسع تسمى بـ”خريدي شب عيد” (أي الشراء لليلة العيد). وتُبدي المرأة الإيرانية حماساً أكثر من الرجل لإحياء هذا العُرف المتوارث؛ حيث تشهد أسواق المدن الإيرانية حركة تبضُّعٍ غير مسبوقة تحضيراً لعيد النوروز منذ منتصف شهر آذار. ويسود الاعتقاد لدى الإيرانيين أن التبضُّع في عيد النوروز وغرس الأشجار أو وضع مجموعات الخضرة والأزهار في المنازل من شأنه أن يوسع الرزق في العام الجديد، ويـبعث التفاؤل في النفوس.
وقبيل انبلاج فجر أول أيام السنة الفارسية الجديدة يحرص كل إيراني على أن يكون متواجداً ضمن أسرته لاستقبال النوروز، وفي ليلة حلول السنة الجديدة تجتمع العائلة حول سُفرة خاصة تسمى بسفرة “هفت سين” (أي السينات السبع)، وتضم 7مواد يبدأ اسمها بحرف “السين”، وهي: “سبزي (خضروات)، سيب (تفاح)، سنجد (تمر)، سير (ثوم)، سكة (قطعة نقد معدنية)، سركه (خل)، وسمنو (حنطة)”، وتتوسط السفرة نسخة من المصحف الشريف طلباً للبركة وسعة الرزق، ويعتقد الإيرانيون بأن إعداد هذه المائدة التي تبدأ بحرف السين تبرُّكاً بكلمة « سبز »أي الخضرة من شأنها أن توسِّع في رزقهم كما يحرصون على زيارة الأقارب والأصدقاء خلال أيام عطلة رأس السنة الإيرانية ويسافرون إلى المناطق السياحية الخضراء للاستمتاع بمناخها الخلاب والمعتدل.
كما تقوم الأسر الإيرانية بشراء أسماك الزينة الملونة بحسب عدد أفراد الأسرة، وتوضع في آنية زجاجية في شرفات المنازل أو قرب النوافذ إلى جانب باقة الأزهار، ويتم الاعتناء بهذه الأسماك حتى يمر يوم الثالث عشر من أول أشهر السنة الجديدة. ومع اقتراب لحظات دخول العام الجديد يقرأ أفراد الأسرة بصورة جماعية دعاء “يا مقلِّب القلوب والأبصار، يا مُدبِّر الليل والنهار، يا مُحوِّل الحول والأحوال.. حوِّل حالنا إلى أحسن حال”.
وفي القرى والأرياف يقوم الشباب العُزَّاب في ليلة النوروز وتحت جُنح الظلام بوضع هدايا خاصة ملفوفة و مزيَّـنة أمام منازل ذوي الفتيات اللواتي يرغبون بالزواج منهن مستقبلاً، وينتظرون النتيجة في صباح أول أيام عيد النوروز، فإذا لم يجد الشاب الهدية ينتابه الفرح والحبور؛ لأن ذلك معناه أنه سينال بُغيتهُ في الزواج من فتاة الأحلام هذا العام، أما إن وجد الهدية في مكانها يعود أدراجه بخفَّيْ حُنين.
وفي اليوم الثالث عشر لعيد النوروز (2 إبريل) المسمى بالفارسية “سيزده بدر” تخلو غالبية البيوت الإيرانية من ساكنيها، وجرت العادة منذ القديم على أن يغادر جميع أفراد الأسرة المنزل في هذا اليوم، وتمضية الوقت خارجه في المتنزهات والحدائق العامة حتى حلول المساء؛ الأمر الذي يؤدي إلى حالة ازدحام شديد لا تعرف المدن الإيرانية نظيراً له في بقية أيام السنة. ولحراسة البيوت الخالية من أهاليها تستنفر الشرطة الإيرانية دورياتها في هذا اليوم، وتضعها في حالة التأهب، وتصدر تعليمات للمواطنين تمنع فيها مرور أي شاحنة تـنقل أثاثاً منزلياً، ومن يريد الانتقال إلى منزل آخر خلال هذا اليوم يتوجب عليه إعلام الشرطة بذلك قبل مدة من الزمن.
ويستمر الاحتفال بالعيد على مدى أسبوعين على الرغم من أن العطلة الرسمية لا تتجاوز خمسة أيام إلا أن الإيرانيين اعتادوا على مواصلة العطلة حتى يوم الطبيعة الثالث عشر من الشهر الأول للسنة الجديدة باعتباره خاتمة أيام العيد.
علي رضا فدوي
الملحق الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في اللاذقية