اللا انتماء

الوحدة 11-1-2022
الإنسان بشكل عفوي طبيعي ينتمي إلى إحدى دوائر الانتماء الوطني- الديني- المذهبي- الجهوي- القبلي- العرقي، وصولاً إلى الانتماءات المهنية كالمنظمات والنقابات وغيرها، وفي أيامنا هذه نعيش في عالم يتجه نحو التكتلات الكبرى أمام زحف العولمة واستحقاقاتها، بينما في أقطارنا العربية نشهد الاستيقاظ غير المسبوق للهويات الضيقة التي تستهدف نسف الهوية الوطنية واستدعاء انتماءات زائفة لتكون البديل لانتماء وطني أصيل ومتجذر.. فكيف يمكن لوطن أن يكون مجرد قطعة مهترئة بمرور الوقت؟!.
عند غياب الانتماء الوطني الجامع تظهر الانتماءات الضيقة، حيث تشهد المنطقة العربية تحديات وجودية غير مسبوقة تتعلق بالهوية والانتماء، حيث يفتتن البعض بقابلية التغيير ومرونته، لكنه افتتان مسحوب إلى بقعة غامضة تستجر المرء إلى مزيد من التوهان لا الاستقرار، فالتغيير قشرة خارجية كما لو أنها حرباء تثير الاهتمام بتقلبات لونها، وطريقة ملتوية للتكامل والارتباط بهوية مؤقتة مرهونة بلحظية آنية غير مستقرة، وصيفة مموهة للهروب.. فكيف يمكن الانتماء إلى هوية مزعزعة مهما ادعينا أننا أحرار..؟!.
لا يجوز لأحد أن يحرم إنسان من انتمائه، بينما العزب يركز على فكرة مركزية الغرب وهويته ولا شيء سواها، وطمس كل انتماء لدى الآخرين وتعزيز فكرة الغرب السيد ومزرعة الرق والعبودية التي تمثل أحد أنواع الرأسمالية مثلما قام الاستعمارين الفرنسي والبريطاني بالسيطرة على لغاتهم الأصلية لتهجين هوياتهم وانتمائهم.
أثناء الحروب يتزعزع مفهوم الهوية ويتفكك ويضيق الانتماء وقد يصاب الإنسان بنوبة قشعريرة هيستيرية من اللاوعي تطيح بانتمائه، هناك أدباء عاشوا ظروف حرب غير طبيعية يحتمون بأقنعة زائفة اندمجوا فيها حتى صارت هي الأصلية لا التنكرية، أدباء دهنوا جلودهم بطيف إبداعي زائف، تجمعهم حالة التشتت واللا انتماء وتركوا لنفوسهم شهوة انتمائها وفرارها وفق تجليات وتخليقات إبداعها، أصحاب علاقات مهتزة غير واضحة مع رحم منبتهم الأول، تنكروا لأرضهم البكر التي صنعتهم قبل أي بلد آخر، بسبب ضعف شعور الانتماء الوطني لديهم، أدباء انتموا لذواتهم الضخمة ولم يدركوا أو يبصروا انتماءً وطنياً أكثر اتساعاً.. ميلان كونديرا الذي أسقطت عنه الجنسية التشيكسلوفاكية تأرجح من هويته ويرى أنه لا وجود للهوية كما تظهر أعماله وخاصة رواية الجهل، بينما إميل سوران الذي كره الانتماء إلى بلد ضعيف كرومانيا يقول: (الإنسان الذي يحترم نفسه ليس له وطن- الوطن مادة لاصقة) ، والشاعر والمسرحي الألماني برتولد بريخت الذي عرف في فترة الحكم النازي لألمانيا منافي عدة، لا منفى واحداً استقر فيه يورد في إحدى قصائده بتشبيهاً صادماً صادقاً: (مضينا نبدل بلداً ببلد أكثر مما نبدل حذاء بحذاء) وكتب في وصيته لجمهوره: (لا تحملقوا هكذا برومانسية).
الوطن مادة محببة أثيرة لاصقة بالقلب ببصمات لا تمحى.. علينا التركيز على الهوية الجامعة القائمة على ركائز حضارية وثقافية وبناء الشخصية الوطنية وتكريس ثقافة حب الوطن والاعتزاز بالأمة والأرض والتاريخ ونبذ الانتماءات الضيقة والحد من تأثيرها والابتعاد عن التعصب والاقصاء ورفض كل أشكال الخرائط الضيقة المتشظية للمكون الكلي والحفاظ على اللغة العربية التي هي لسان المواطنة والانتماء ووعاء الهوية وحاملة الموروث الثقافي والحضاري وآلة الإنتاج المعرفي والإبداعي.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار