الوحدة: 9-9-2021
مثلما الشعر مرآة العصر فهو امتداد للشاعر، وهو صورته، يتطور بتطوره ويزداد ثراءً بازدياد ثقافته، هذا ما استهل به الأُستاذ محمد زهرة محاضرته الثقافيّة بعنوان (قراءة في شعر محمود درويش) التي ألقاها في مقر الجمعية العلمية التاريخية بجبلة.
وطالما أنه لا يمكن الإحاطة بجميع أعمال الشاعر الكبير محمود درويش الغزيرة، فقد رصد المحاضر محمد زهرة ثلاث مراحل هامة تعكس مدى تطور الشاعر ونضجه الفني والثقافي والفكري والشعري معاً.
– المرحلة الأولى: وتمثل البدايات الشعرية في مرحلة اليفاع وقد بدأت بإصدار ديوانه الأول (أوراق الزيتون) عام ١٩٦٤ معلناً هويته الثورية، ثم أعلن التزامه بقضايا الكادحين المصرية وولاءه لرفاق دربه حيث كتب العديد من القصائد ومنها القصيدة الشهيرة (سجل أنا عربي).
حيث أكد على تمسكه بالأرض والتصاقه بالقمح والزيتون حيث يقول: (إنا نحب الورد لكن نحب القمح أكثر ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر) إذ أن الالتزام بالقضايا الجماهيرية ضرورة في الشعر.
وفي ديوان (عاشق من فلسطين) عام ١٩٦٦ تعلق بأرض فلسطين حتى الموت، وصدرت له عدة دواوين (آخر الليل)، (العصافير تموت في الجليل)، (حبيبتي تنهض من نومها)، (أحبك أو لا أحبك)، (محاولة رقم ١)، (تلك صورتها) و(هذا انتحار العاشق).
– في المرحلة الثانية: تتميز هذه المرحلة بأنها الأطول والأقسى والأكثر صخباً ومعاناةً، فقد تعرض الشاعر للموت عدة مرات بسبب مرضه القلبي واستشهد أخوه وانتحر رفيق عمره، لكنها مرحلة تشكل قفزة نوعية في حياته الشعرية جعلته يرتقي الدرجات العليا على سلم الشعراء فهو بحق شاعر العقل والقلب فكرياً وفنياً.
يعد ديوان (أعراس) الشهير بحق مؤشراً لافتاً في حياته الفنية حيث بدأ يتسلل الرمز إلى معظم قصائده، حيث شهد الشاعر الحرب الأهلية في لبنان وتركت في نفسه أثراً بالغاً لا يمكن ترميمه، كما كتب أحد أشهر قصائده (أحمد الزعتر) التي صنفت بأنها درّة الديوان والتي تفسر نزيف الشاعر وتشظيه.
ويلاحظ في هذه المرحلة كيف أن الرمز رفع من المستوى الفني للشاعر مستخدماً التناص والتضاد بشكل لافت.
ثم كتب قصيدته التسجيلية الملحمة الخالدة (مديح الظل العالي)عام ١٩٨٣عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت، وتعد تلك القصيدة تتويجاً خالداً للشاعر حيث وضعته في مصاف الشعراء الأوائل.
وقد ارتفع بهذه القصيدة رغم مباشرتها إلى أعلى درجات التصوير والتحريض وقد أبدع في تصوير يوميات الحصار بأدق التفاصيل، ورغم كل ذلك لم يتخلَّ عن الدلالات الرمزية مستخدماً التناص في استعارات أسطورية ساحرة متهماً حكام البترول – دولار بأنهم أعدوا لأيلول الجديد.
وفي عام ١٩٨٦ كتب قصيدته القنبلة (أيها المارون بين الكلمات العابرة) التي كان لها وقع كالهزة الأرضية في الكيان الصهيوني، وفي العام ذاته أصدر ديوان (ورد أقل) ومن قصيدة (فلسطين) على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
في عام ١٩٩٠ صدر له ديوان (الرباعيات) وفي عام ١٩٩٢ أصدر ديوانه الشهير (أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي) وفيه شواهد كثيرة عن التناص بين الأسطورة والواقع.
– المرحلة الثالثة: وتتسم هذه المرحلة بالنضج الثقافي والفكري الهائل حيث بدا الشاعر بعيداً عن الانفعالات والتعصب القومي والتفاخر بالموروث، وكتب قصائده بأسلوب إنساني مقنع قلّ نظيره وانتزعت قصائده تعاطف الكثير مع القضية الفلسطينية، وتجاوز شعره المألوف المليء بالتوصيفات وتجنب التفاصيل الزائدة في اللغة، فشكل جنساً أدبياً جديداً مذهلاً وفي الانتقالات الهادفة وحيث يطغى الفكر على الموسيقى لكنه بقي محافظاً على الوزن وتعدد التفعيلات في الشطر الواحد والتدوير من نهاية الشطر الأول حتى نهاية الشطر الثاني.
وفي هذه المرحلة كتب محمود درويش الجدارية الخالدة طوال عام ١٩٩٩ بعد خضوعه لعملية القلب المفتوح عاش بعدها عشر سنوات فقط ،أثناء العملية دخل في غيبوبة طويلة أسماها موته الأول فيها كتب حوارية عالية مع الغيب والموت معتمداً على ممرضته في تدوينها أثناء هلوساته وهذيانه.
ثم كتب ديوانه (حالة حصار) عام ٢٠٠٢ حيث كان يشاهد من نافذة بيته دبابات العدو وهو في حالة الحصار في رام الله، و تم تخصيص ريع هذا الديوان إلى الانتفاضة.
توقف قلب الشاعر الكبير عام ٢٠٠٨ أثناء خضوعه لجراحة القلب الثالثة، وتم العثور على مخطوط بمنزله في عمان يضم قصيدته الأخيرة المذهلة (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي) ترمز إلى حياته وشعوره باقتراب الموت.. كان حزيناً يحاور الموت يقول فيها: (ولي ما كان لي متران من هذا التراب سيكفيانِ الآن).
لقد نقلت قصائد محمود درويش قضية فلسطين إلى وجدان البشرية في أصقاع الأرض الأربعة، رحل حفيد المتنبي، ورحل الشاعر الذي حمى القصيدة من تهافتها وأحكام زمانها، وتمكن من رفعها على صهوة التحول والتجدد وتوّجها على عرش الثقافة العربية المعاصرة تاركاً إرثاً شعرياً وثقافياً أغنى المكتبة العربية والعالمية، وسيمضي زمن طويل قبل أن يتكرر.
ازدهار علي