الفنان رشيد علي ديب والخطّ العربيّ.. بين الجمالية والشجون

الوحدة 17-8-2021


للجمال إشراقاته المتعددة, مداه صور من السعادة تطبع ذاتها عند كل يقظة للشمس أو رسم للقمر، وللجمال أياديه التي تزركش هنا وهناك لقطات تراقص الروح وتزهر معها، وللجمال أيضاً بدع من أشكال تتلون مع تلون الحياة في فنونها.
الخطّ العربيّ شكلٌ من أشكال الفنون التي تستزيد على صورها إبداعاً, وتحلّق مع الحروف إلى مدىً يتناغم مع بعضه يؤطر بعضه على لوحة أو جدار أو حياة وتاريخ.
اللغة العربية تعانق فن خطها, يساعدها في ذلك ما تتميّز به من فن وتصميم خاص في كتابة حروفها التي تكون متصلة مع بعضها ما يجعل إمكانية إكسابها أشكالاً هندسية أمراً سهلاً كالتشابك والتداخل وغيرها.


حول هذه الفن وقيمته في ضجيج زمن الأنترنت ولغته وعوالمه كان لنا هذا الحوار مع المربي الفاضل رشيد علي ديب الذي عمل في مجال الخطّ العربي, خلال سنوات طويلة ماضية وعلمه عبر دورات أقامها وما يزال مؤمناً ومدافعاً عنه, والفنان رشيد ديب من مواليد دمشق 1959مدرّس متقاعد, خطاط ومصمم غرافيك وشاعر وعازف, مشارك بتسع مسابقات دولية للخط العربي باستانبول ,أربعة معارض خطية جماعية ما بين اللاذقية وجبلة والمكتبة المركزية بجامعة تشرين والمعرض السنوي بمكتبة الأسد بدمشق, كما شارك بمعرض جماعي وتكريم من قبل اتحاد الصحفيين في الساحل السوري, معلّم للخط العربي من خلال دورات دائمة لمدة ثلاثين عاماً. وعلى خطوط جريدة الوحدة نقف لنسأل ونخط أكثر
– فن الخط العربي بين النقوش والخطوط ما هو تاريخه؟
لا بد مقدَّماً من التذكير بقول الله تعالى: ( وعلّم آدم الأسماء كلها), وقوله جَلّ من قائل: ( ن والقلم وما يسطرون) حرف وأداة وقرطاس, الحرف (ن) أحد حروف اللغة العربية والأداة قلمٌ دليلُ العقل والفكر والثقافة والقرطاس ما يرسم عليه أو يكتب، من فنون أو آداب أو علوم, وهكذا علّم الله (آدم) ابنَه الإنسانَ كل شيء خَلَقَهُ، ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى قد علّمه الخط نتيجة طبيعية مفادها أن الكتابة مخلوقة مذ خلق الله الإنسان وهذا رأي خاص.
– كيف يمكن أن تقيّم ارتباط الخط العربي بلغته وما يميزه عن باقي الخطوط؟
اللغة جملة من الحروف (مكتوبة ومنطوقة)، عمودها الفقري الكتابة ولا يمكن أن تنتقل بين مكان وآخر دون أن تدوّن من هنا نجد أن الخط هو لسان اللغة وصوتها وبيانها ووعاؤها، أما ما يميز الخطّ العربيّ عن بقية الخطوط الأجنبية فأعتقد أن صلته بالقرآن تعطيه أرجحية على خطوط اللغات الأخرى، زيادة على ما يتميز به من أنواع عديدة تصلح كي تكوّن فنّاً متكاملاً متفرداً, ونحن لانعرف لوحات فريدة كتبت بأية لغة أخرى كما هي الحال بالنسبة للخط العربي.
– لكلّ خطّ من الخطوط قواعده الخاصة، ما هي أنواع الخطوط وقواعدها؟
الخطوط العربية أربعة عشر خطاً، ستة منها أساسية متداولة وثمانية بعضها متفرِّع عن الستة الأولى، وبعضها الآخر مستقل بذاته لكن لا يكتبه إلا المحترفون من الخطاطين وهي على التسلسل: الكوفي، النسخ، الديواني، الرقعة، الثلث الدقيق، التعليق الدقيق (الفارسي) ثم يليها: الديوانيّ الجليّ، التعليق الجلي (الفارسي الجليّ)، الثلث الجلي، المحقق، الريحاني، الإجازة، الشكستة، المغربي، ولكل نوع من هذه الخطوط قواعد وموازين كل منها يحتاج بحثاً بمفرده.
– هل هناك مساحة من الابتكار يستطيع فنان الخط أن يتحرك فيها بحرية؟
هناك خطوط بسيطة لا تعدو كونها للكتابة فقط كخط الرقعة وخط النسخ والخط الديواني، أما الخطوط المعقدة الصعبة التي تتداخل فيها الكلمات أو الحروف بعضها ببعض فتنشأ منها تكوينات بديعة وفي غاية الجمال، وقد تأخذ هذه اللوحات كلاً على حدة شكل زورق مثلاً أو طائر أو حيوان، أو شكلاً هندسياً وهذه الأشكال لا تكون مطروقة من قبل, وللخطاط حسب تصوره الحرية باختيار الشكل الذي يراه مناسباً للنص, ومن هذه الخطوط: الثلث والديواني الجلي والمحقق والريحاني والكوفي والفارسي الجليّ ..
– للخط العربيّ أدوات خاصة لا يستخدم فيها القلم العادي، ماهي أدواته؟
باستثناء القلم العادي هناك أقلام جاهزة للخط العربي بقياسات متدرجة في السماكة إضافة إلى مزمار الخطاط الشجيِّ وهو القصب متنوع المصادر والأحجام, هذا بالإضافة إلى الحبر العربي المصنّع يدوياً ، أو الأحبار المستوردة، يضاف إلى ذلك الورق الخاص الملائم من حيث الجودة والمحضّر مسبقاً للكتابة بطرق مختلفة.
– انخفاض الاهتمام بالخط العربي، أو كما يقال احتضاره، برأيك لماذا، وماهي الحلول والمقترحات لإعادته إلى موقعه الطبيعي؟
في منطق (فاقد الشيء لا يعطيه) نعرف جميعاً كتربويين أو خطاطين متمرّسين أنه لا يوجد خطاط واحد حاصل على شهادة من إحدى جامعات القطر وفي أية مدرسة من مدارس سورية، يُعلِّمُ الخط العربي مستقلاً كأية مادة أخرى، وخذي مثالاً على هذا: الرسم والتربية الرياضية والموسيقى علماً أن لهذه المواد مدرّسات ومدرّسين حاصلين على إجازات في التدريس ومعينين أصولاً داخل الملاك ولكن وعلى مسؤوليتي أقول: إن هذه المواد الثلاث لا تضيف أية ثقافة إلى ذهن الطالب كونها مهمشة كُلِّياً ولا يأخذ الطالب عشر حقه منها على مدى عام دراسي كامل, فماذا لو استبدلت مادة منها بمادة الخط العربي الذي هو الحبل السري بين الطالب ولغته؟! الغريب في الأمر أن وزارة التربية حتى اللحظة ورغم التطوير السنوي المتكرر للمناهج التعليمية لم تلحظ ورقة تربوية لبحث إعدادِ وتخريجِ كادرٍ متخصِّصٍ بالخط العربي من أيٍّ من كلِّيّات الفنون الجميلة المنتشرة بجامعات سورية أسوة بالرسم والفنون التطبيقية الأخرى رغم أن الخط على رأسها.
الحلّ برسم الجهات التي تدعي أنها تربوية وعلى عاتقها يقع ما وصلت إليه خطوط الطلاب والمدرسين وموظفي الدولة في قطاعاتها المختلفة والآثار السلبية التي تحدث جرّاء ذلك وهي أكثر من أن تحصى.
– وأنت مربٍّ للأجيال، لماذا اتجهت إلى هذا النوع الخاص من الفنون؟ وكم عدد الدورات التي تقيمها؟ وكيف تقيّم الإقبال على هذا النوع في اللاذقية؟
تعلقت منذ أن كنت تلميذاً بالمرحلة الابتدائية بهذا الفن وكنت أخربش ما يحلو لخاطري على دفاتري وكتبي المدرسية وأية ورقة أمامي وكنت أقلّد عناوين الكتب المدرسية والمانشيتات العريضة بالجرائد والمجلات وكان يستهويني أن أتتبع يافطة لطبيب أو محامٍ أو مكتب هندسي أو متجرٍ أو أي إعلانٍ دعائي في سوق المدينة, كان ذلك قبل أن يكون بمقدوري شراء مرجع للخط العربي أو أداة من أدواته وقد سحرني فيما بعد كراس الخطاط العراقي محمد هاشم البغدادي رحمه الله وأخذت أكتب وأقلد وأعيد الكرّة حتى حفظته, وكنت أتباهى أمام رفاقي وأنا أكتب شيئاً منه مثلما رأته عيناي ومنذ تلك اللحظة لم أملَّ الكتابة بل صارت جزءاً مهماً من حياتي وأورثتني خمسة فتوق بالعمود الرقبي وديسكاً في أسفل الظهر, وربما هذبت شخصيتي وثقافتي وأخذتني إلى الحياة لقد غدا الخط بالنسبة إليَّ حرفة أمارسها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود في مجال الدعاية والإعلان وتعليم الخط العربي للطلاب والمهتمين وأفخر أنني استطعت أن أُخرِّجَ جيلاً كاملاً من الطلاب، باتت خطوطهم على أقل تقدير أدقّ وأجمل من خطوط مدرّسيهم.
– ظهور الانترنت ولغته الرقمية والتعامل الهائل بها، إلى أي مدى أثرت على الخط العربي ، وكيف يمكن أن يكون التأثير والتأثر بها؟
لا يخفى على عاقل أن عالم الإنترنت ومواقع التواصل. الاجتماعي وفي ظل التراسل السريع وتطور تقنيات الحاسوب قد أبعدوا جيل اليوم عن الكتابة اليدوية وأكثر هؤلاء من الشباب ! كنا سابقاً نرى في جيب كل متعلّم قلماً. أما اليوم ففي أيدي الجميع موبايل لا يفارقهم, لكن المتنور الذي يبحث عن علم أو فن فهو قادر أن يمازج ما بين الحداثة والفن التقليدي الأصيل بتسخير طاقة اللغة الرقمية وابتداع أعمال توفر الجهد والكلفة والوقت لصالحه.
– المستوى السوري لهذا الفن، كيف تقيمه من حيث الاهتمام والظروف والتعامل؟
وكيف ترى المسابقات العربية للخط العربي ،ومن هي أكثر الدول اهتماما ومن هي أقلها؟
إن تسأليني عن أقل الدول العربية اهتماماً بمسابقات الخط العربي أقلّ لك أنها سورية (بكل خجل) رغم أن الخطاطين السوريين غالباً ما يحصدون جوائز المسابقات الدولية وهم كثر وكأني أرى أنَّ لسورية وضعاً خاصاً في مجال الخط العربي ونشاطاته غير نشاط الخط في معظم الدول العربية، وهي التي تصنف الأولى بينها تقريباً في مجالات الثقافة والفكر والأدب والفن لكن يبدو أن للجهة المعنية بالمسابقات ليلى وللخطاطين ليلى أخرى ،وكلٌّ يُغنّي على ليلاه.
– وأنت الشاعر الذي تصيغ الحروف على بحورها شعراً, ماهي العلاقة بين الشعر والخط العربي؟
عندما أغمس قصبة الخط لأكتب شيئاً ما أتخيلها بين أصابعي ناياً أو ريشة عود فأعزف حرفاً من أوتار صوتي ويرد الصدى حلق عود على البحر الطويل : لَحَرْفٌ على القرطاس بُحَّةُ شاعر كما قصبُ الخطاط يذرفُ أدمعا يدوزن أوتار الأصابع كلما توحّد فيه الخط والعزف معاً، لذلك مع هذا الهارموني المتناغم لن نستطيع الفصل بين خط وشعر موسيقى.

سلمى حلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار