الأديب محمد سمير جعارة وداعاً… رحل تاركاً قيمه السامية وأعمالاً خالدة

الوحدة : 27-1-2021

عاش في بيئة تحتضن (نوارس بيضاء للعالم) بـ (قلب كان حمامة) و(من شرق الموج الأبيض) صاغ قصائده (أغانٍ للكون الأخضر)..

 هذه العناوين هي لشاعر وقاص ملتزم، أحب وطنه الكبير، وتغنى به بأشعاره، وكتب عن هموم أبناء وطنه, إنه الأديب محمد سمير جعارة الذي رحل عن عالمنا، وله مسيرة إنتاج حافلة بالإبداعات، بعد أن كتب القصّة القصيرة ومسرح الطفل الشعري والرواية… أعماله الأدبيّة بأجناسها كانت تتمحور حول قضيّة واحدة معيّنة تُلامس المفاهيم الأساسيّة التي تُعدُّ محاور للإنسان، تؤثرُ في حياته وحاضره ومستقبلهِ، ومن سيرته الذاتية نقتطف بعض المحطات، حيث قال فيها: أجد نفسي في اللحظة الصادقة مِن القصيدة والقصّة والمسرح والرواية.. أي في اللحظة التي أتماهى فيها مع الوطن والإنسان، والحريّة في كلّ مكان وأعتقدُ أنّ لكلّ جنسٍ أدبيّ أهميتهُ طالما جاء يُعبّر ويتحدّث عن الإنسان في وطننا وفي أرجاء العالم.. طالما لم يبتعد عن الهمّ الخاص والعام الذي يشمل العالم كلّهُ بأطيافهِ التي تكمّل بعضها في لوحة فنيّة لا مثيل لها…

وعن مسيرة حياته دوّن الأديب الراحل: (وُلدت في مدينة اللاذقيّة عام 1940، حيث ترعرعتُ في مجتمع يُعاني من هموم وآلام متعدّدة، كان العالم يُعاني مِن مآسي الحرب العالميّة الثانية التي طالت ودمّرتْ كلّ ما هو إنساني وحضاري، وكان اللون الأزرق هو سيّد المشهد، وحين وعيتُ وكبرتُ كنتُ أسمع بويلاتها وكان الإنسان هو الخاسر الأوحد، في ظلّ ظروف لا إنسانية, أذكرُ تماماً حين كنتُ في المدرسة الابتدائية، أنه لم يكن لدينا نحن الأطفال أيّ متّسعٍ للعب! وحين صرتُ يافعاً كنتُ أوفّرّ ما استطعت من (مصروفي اليومي) المتواضع جدّاً لشراء أيّ شيء يُلبّي حاجات كانت تحثّني على المطالعة بنهم كبير.. كنت أشعرُ بوجودي الإنساني واكتمال شخصيّتي، وحريّتي مع قصاصة الورق، ومع الصحيفة والكتاب، وكان لتلك المكتبة المتواضعة في بيتنا أثرها العظيم على ميولي للمطالعة ومن ثمّ للكتابة… كتبتُ الشعر والقصة القصيرة منذ أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم… وكان الإنسان والأرض والحريّة هم أدواتي ومفرداتي، وكان لتلك العناصر والأدوات الدافع الأكبر والحافز المستمرّ لتنمية ميولي الأدبيّة بأجناس الأدب المتعدّدة التي غيّرت مجرى حياتي واهتماماتي، و فكري أيضاً.. كانت بدايات رحلتي الأدبيّة مع الشعر في مرحلة مبكرة حين بدأتُ التحليق في فضاءاتهِ وعوالمه الأخّاذة… كتبت قصائد عديدة عن ثورة الجزائر، وحين اندلعت ثورة أطفال الحجارة في فلسطين وقفت إلى جانبهم، ومجّدت ثورتهم بقصائدي الوجدانية).

 وفي قراءة لمجموعته الشعرية الموجهة للأطفال (من شرق الموج الأبيض) بقلم الناقد محمد ضمرة نقرأ بإيجاز ما تضمنته تلك الدراسة عن هذه المجموعة حيث قال عنها: (لا شك أن الكتابة للأطفال من الأمور الصعبة والشاقة، وهي تتطلب دراية بما يفكر به هؤلاء الأطفال، وما يصلح لهم من حيث تقديم مفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة، هذه المفاهيم المنطلقة طبعاً من مبادئ وأفكار تمكنهم من إدراك الكثير من الأسرار التي تواجهها عقولهم، على شكل أسئلة كثيراً ما يلجأ بعضهم إلى طرحها على المقربين منهم ابتداء من الوالدين والأسرة… وكل كاتب للأطفال قد مرّ في حياته الطفولية بهذه الحالات، وتلك الخواطر، النابعة من أسئلة مثيرة، وكل كاتب قد شعر في طفولته بما أحبه وما كرهه من صور ومفردات، وقصص خيالية وصور شعرية ظلت محفورة في الذاكرة تمتع بحفظها، وأخذ يرددها بينه وبين نفسه، وربما على أطفاله من بعد، وهذا ما وجدته في مجموعة شعرية للأطفال بعنوان: “من شرق الموج الأبيض” للشاعر محمد سمير جعارة، والتي اشتملت على خمس عشرة قصيدة، إضافة إلى مدخل لهذه القصائد، فجاءت في اثنتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير، ومع أن العنوان جاء بمفردات أربع، إلا أنه قد حمل الإشارة إلى تعيين المكان، وربما قصد بذلك تحديد المكان الذي كتبت فيه القصائد، أو العكس من ذلك وهو المكان الذي كتبت لأجله هذه القصائد، ولهذا فقد آثر الشاعر أن يقدم لقصائده بمدخل دالٍ على الحاجة التي يتطلع لها الأطفال في هذا المكان، هذه الحاجة المتمثلة في كراهيتهم للحروب وما تخلفه من دمار وإعاقات لمسيرة الطفولة العابقة بالحلم لبناء مستقبل جميل، ولم يكتف الشاعر بهذا المدخل، فقد ذهب مباشرة إلى نص مفتوح على هذه المعاني، حيث أطلق على قصيدة من قصائد المجموعة بنداءٍ حارٍ أن  “أوقفوا كل الحروب” والنداء أو الطلب الذي لوح به الأطفال في هذه القصيدة هو طلب عام من الجميع، ولكن تأثيره أكبر حينما يكون من الأطفال الصغار الذين يتطلعون إلى الحياة ومباهجها وأفراحها وليس إلى الحزن والألم والفقد، كذلك إذا ما تصفحنا بقية القصائد، فإننا نجدها تدور في هذا المجال بصور متعددة ومتنوعة، فهناك قصيدة “أطفال النور، هيا يا نوّار، لن أبكي، صوت المحبة”، وغيرها من القصائد الأخرى التي ترسم أمام الطفل الصورة التي يتمناها ويتغنى بها، فهو باحث عن النور الذي يدحر الظلمة، وكذلك ينتظر آذار بزهوره ونوّاره وشذا عطوره، وهو يبحث عن الابتسامة والضحكة التي تشكل قلبه قبل أن تتشكل على وجهه، ولذلك نرى الشاعر يتكلم في قصيدته الدالة على المستقبل “لن أبكي”، وكأن العنوان يوحي بشيء بعده، فكأنه أراد القول: لن أبكي بعد اليوم، أو بعد هذه المرحلة الصعبة التي انتهت، و”في صوت المحبة” تشكيل لكل المبادئ والمثل العليا التي يسعى الإنسان إلى غرسها في النفوس، فالحب هو المحرك لمسيرة الحياة والعطاء، وأستطيع القول بأن الشاعر في مجموعته يمتلك طاقة إيجابية فاعلة وبناءة، وقد وفق في قصائدها الموجهة كرسالة صادقة وشفافة، مليئة بالمثل العليا والصور الإنسانية الجميلة).

ومن المعلوم أن الشاعرة السورية إباء إسماعيل المقيمة في ميشغن الأمريكية قد قامت بإصدار ترجمتها لهذه المجموعة الشعرية للأطفال (من شرق الموج الأبيض) للشاعر الراحل محمد سمير جعارة ونشرتها باللغتين العربية والإنكليزية.

 الجدير بالذكر أن الأديب الراحل محمد سمير جعارة هو عضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو جمعية الشعر، وعضو مجلس إدارة نادي أوغاريت الثقافي في مدينة اللاذقية  ومن المؤلفات الشعرية المطبوعة له (المجد للأرض، و فارس الأمل، لأطفال الحجارة فلسطين، مزامير لقرص الرماد، أنتِ والناقوس،  لماذا يرقص الحمام هكذا، نوارس بيضاء للعالم، القلب كان حمامة، من شرق الموج الأبيض) شعر للأطفال واليافعين، ومن المؤلفات القصصية له ( الصامت، هرولة على الكورنيش الغربي)، أما الروايات فمنها ( حافة الشوق، حارة الشوق)، ومن مسرحياته الشعرية للأطفال (أغانٍ للكون الأخضر) وقد تم إصدار الأعمال الشعريّة الكاملة له ضمن مجلدين (في سبيل غدٍ أفضل) و(تجلّيات فكرية، اجتماعية، أدبيّة).

بقي للقول أنه  في يوم الجمعة، الثاني والعشرين من شهر كانون الثاني عام 2021 فقدت الإنسانية رمزاً ونبراساً برحيل الشاعر والأديب محمد سمير جعارة، الذي رحل تاركاً أحلامه وأمنياته وقيمه السامية بعد رحلة من الكفاح والجهد والعطاء بإخلاص، لكن أعماله ستبقى بالذاكرة والوجدان من خلال حروفها المُلونة بالحياة وجداول الشعر السهل الممتنع وروايات الكون الذي أراده مليئاً بالخير والمحبة والتسامح.

فدوى مقوص

تصفح المزيد..
آخر الأخبار